الحرب الباردة.. الإفتراضية

شادي لويس

الجمعة 2017/01/06
بعدما اتهم تقرير لشبكة "إن بي سي نيوز" الأميركية، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، باشرافه بشكل شخصي على التسريبات الالكترونية المتعلقة بالإنتخابات الرئاسية الاميركية الاخيرة، بغيه التأثير في نتائجها لصالح ترامب، نقلت مجلة "التايمز" البريطانية، عن مسؤولين حكوميين، مطلع الأسبوع الماضي، أن موسكو تقف وراء عملية منظمة لإضعاف مكانة المملكة المتحدة، عبر حملة من الهجمات الالكترونية ونشر الأخبار المضللة في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الإجتماعي. 
وكما أعلنت الإدارة الأميركية عن دراستها للردود المناسبة على التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية، فإن تقريراً لجريدة "تيليغراف" البريطانية، أشار إلى أن رئيسة الوزراء البريطانية، تريزا ماي، ستجتمع مع مجلس الأمن القومي البريطاني، في الأسابيع القليلة المقبلة، لمناقشة الحملة الروسية ضد المملكة المتحدة وحلفائها ودراسة وسائل الرد الممكنة، على خلفية دعوات من خبراء أمنيين لتشكيل "حكومة حرب" في مواجهة الأنشطة العدائية الروسية. 

لكن الهجمات الافتراضية الروسية، لا تبدو موجهة للولايات المتحدة وبريطانيا فحسب. فتقرير للبرلمان الأوروبي، صدر الشهر الماضي، عزز الاتهامات لموسكو بشن حملة معادية للإتحاد الأوروبي، سخّرت فيها عدداً من مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام وحملات الدعاية في الإنترنت ووسائل التواصل الإجتماعي، لدعم الأحزاب اليمينية المتطرفة في دول الإتحاد، وزعزعة مصداقية الوحدة الأوروبية. 

وفي مستهل العام 2016، إتهمت الحكومة الألمانية، التلفزيون الروسي الحكومي، بمحاولة نشر حالة من الفزع، بعد بثه أخباراً مزيفة عن إغتصاب مهاجرين عرب لمراهقة ألمانية، وهو الأمر الذي لم تعتذر عنه إدارة التلفزيون الروسي، بل سعت للتشكيك في نفي الشرطة الألمانية للواقعة. 

وفي الشهر نفسه، إتهم رئيس المخابرات الألمانية موسكو بالوقوف وراء هجمات إلكترونية على البرلمان الألماني، وعدد من المؤسسات الحكومية والخاصة في ألمانيا، بغية "بثّ حالة من عدم اليقين السياسي" قبل الإنتخابات الألمانية العامة المقبلة.

وبالرغم من أت إلتفات الحكومات ووسائل الإعلام الغربية لاستراتيجية الحرب الروسية الإلكترونية-الإعلامية، لم يتكثف حتى هذا العام، فإن تلك استراتيجيات كان قد تم التوسع في توظيفها منذ أكثر من عشر سنوات. فبينما اكتفت الإدارة الروسية خلال الحرب القصيرة في جورجيا، العام 2008، بشن هجمات الكترونية على حواسيب مؤسسات الحكومة الجورجية ومواقع وسائل الإعلام، فإنها طورت استراتيجيتها مع بدايات الأزمة في أوكرانيا. 

بعد الثورة الأوكرانية، في فبراير/شباط 2014، واسقاط حكومة يانوكوفيتش الموالية لروسيا، وقبل أربعة أيام من انتخابات الرئاسة في مايو/أيار من العام نفسه، شنت موسكو هجمات إلكترونية على حواسيب لجنة الإنتخابات المركزية الأوكرانية أدت إلى تعطيلها بالكامل، ولاحقاً وفي يوم التصويت نفسه، تم اختراق موقع اللجنة الإنتخابية وبث نتائج مزيفة للانتخابات، بثتها قناة التلفزيون الروسي الأولى الحكومية قبل إعلان النتائج الرسمية. 

وفيما فشلت الهجمات الإلكترونية في التأثير في نتيجة التصويت الأوكراني، الذي اعتمد على التصويت الشخصي والفرز اليدوي، فإن الاستراتيجية الروسية كانت أكثر نجاحاً في حالات أخرى. فتسريب تسجيل سري لخطاب رئيس الوزراء المجري، أمام أعضاء الحزب الإشتراكي، العام 2006، ساهم في تراجع شعبية الحزب، وفي الفوز الكاسح لحزب فيكتور أوربان، اليميني، والمقرب من موسكو، في انتخابات 2010.

وفي حالة مشابهة، ساهم تسريب لمحادثة خاصة بين رئيس البنك المركزي ووزير الداخلية البولنديين في العام 2014، وبعده بث محادثة خاصة بين وزراء في الحكومة البولندية في أحد مطاعم وارسو، في تراجع شعبية حزب "المنصة المدنية" الحاكم حينها، وفوز حزب "القانون والعدالة" اليميني، المعادي للإتحاد الأوروبي، والأقرب من موسكو، في الإنتخابات العامة الأخيرة هذا العام.

وفيما يبدو أن هناك اتفاقاً واسعاً في وسائل الإعلام الغربية ومسؤوليها الحكوميين على النجاح الاستثنائي للاستراتيجية الروسية التي توظف مجموعة من وسائل التجسس التقليدية، والهجمات الإلكترونية مع حملات البروباغندا الإعلامية، وبثّ الأخبار المزيفة والتسريبات، والحملات الممنهجة في وسائل التواصل الإجتماعي، للتأثير في الرأي العام في الدول الغربية وجيرانها بغية زعزعة الثقة في حكوماتها، وتدعيم حركات سياسية موالية لموسكو، ومعادية للمؤسسات الغربية ومن بينها الإتحاد الأوروبي، فإن ذلك النجاح لا يتعلق بالتفوق الروسي التقني والمخابراتي فحسب. فالتمدد الكثيف للبنية التحتية الرقمية عالمياً، والتوسع المتسارع لاعتماد المؤسسات الحكومية والحزبية والعمليات الديموقراطية في الغرب عليها بشكل شبة حصري، جعل تلك المؤسسات في وضع أكثر هشاشة أمام محاولات إختراقها ومهاجمتها، وهو الأمر الذي لم يعد يتطلب استثماراً ضخماً في البنية العسكرية ولا امكانات تقنية معقدة وعالية الكلفة كما في ظروف الحروب التقليدية في السابق. 

فعلى سبيل المثال، التأثير المتواضع لإختراق موقع لجنة الإنتخابات الأوكرانية يعود بالأساس لاعتماد التصويت فيها على الوسائل التقليدية والفرز اليدوي، بينما لو تصورنا عملية مشابهة في عملية إنتخابية أكثر تقدماً تقنياً تعتمد على التصويت أو الفرز الإلكتروني، فإن تأثيرها ربما يمتد لإلغاء الإنتخابات أو التلاعب بنتائجها سيتناسب طردياً مع التطور التقني لعملية
التصويت. 

وكما أن تطور البنية التحتية الرقمية للمؤسسات الديموقراطية وتعقدها يبدو عاملاً من عوامل هشاشتها لا العكس، فإن الانتشار المضطرد لشبكات الستالايت التلفزيونية، ومنصات الإعلام الرقمية، والاستخدام الكثيف لوسائل التواصل الإجتماعي، وسهولة الولوج إليها وانخفاض كلفة استخدامها، ساهم كذلك في سهولة توظيفها بشكل منهجي في بث وتدوال التسريبات والأخبار الزائفة وشن الحملات السياسية الموجهة عن بعد. 

لكن الأمر لا يتوقف عند الجانب التكنولوجي، فالاستراتيجية الروسية تبدو ناجحة بفضل عوامل أخرى تتعلق بالوضع السياسي في الدول الغربية نفسها. فتهاوي الثقة في المؤسسات الديمقراطية، والنخب النيوليبرالية، وصعود اليمين القومي في السنوات القليلة الماضية لم تكن نتيجة الحملة الروسية بالطبع، بل سياق مناسب لتعميق تأثيرها، ولتلاعبها بالتبرم الجماهيري المتصاعد تجاه النخب السياسية التقليدية في الغرب. 

وفيما تعود وسائل الإعلام الغربية اليوم لتدوير مصطلحات الحرب الباردة واستخدامها  لوصف تأزم العلاقات الغربية-الروسية، فإن موسكو تبدو واعية بتواضع قدراتها مقارنة بخصومها في أي مواجهة عسكرية- إقتصادية بمعناها التقليدي، وأكثر تفهماً لإمكانات العصر الرقمي وشبكاته، وأكثر قدرة على توظيف أدواته في معاركها الإفتراضية، التي تبدو فيها منتصرة إلى الآن.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024