زافين: صناعة زمن الهواء.. وتصويره

روجيه عوطة

السبت 2015/07/04

ليس كتاب "أسعد الله مساءكم" لزافين قيومجيان (هاشيت. أنطوان-2015) مجرد توليف أرشيفي، بل أن "اللحظات" التلفزيونية التي يحتويها، والتعليقات المكتوبة التي تُضاف إليها، تنتج مساراً بعينه. هو، أولاً، يتسم بوضوح التحقيب، وثانياً، بدقة الإختيار. ذاك أن الكتاب يتعدى فعل الأرشفة، من زاويتيّ الحفظ والتذكر، إلى زاويتيّ التركيب والتصنيع، بحيث أنه يؤلف التلفزيون في لبنان بالإستناد إلى واقعاته الأكثر بروزاً والأكثر عطفاً لمناحي الشاشة الصغيرة ومآلاتها.

إنها الأرشفة بداعي تأريخ الهواء وما يحدث عليه، مثلما أنها رصد للمشهد المغيِّر، أكان مقدماً في مسلسل، أو في ممثل، أو في إعلامية، أو في مطربٍ إلخ. فصحيح أن هذا التأريخ يتعلق بموضوع واحد، أي التلفزيون.. لكنه يفرّعه، ويأخذه إلى سياق آخر، لا يتشكل سوى بالإنحناء والتوقف والجذب والظهور، فضلاً عن القول فيه بالإنتقاء والنظر والسرد.

هبّ الهواء التلفزيوني على لبنان في العام 1959، وقد كان خلف هبوبه أصحاب محلات "بولس إخوان" المستوردة للأجهزة الإلكترونية. نظم الأشقاء بولس، وباعتبارهم وكلاء شركة "باي" البريطانية، عروضاً في الجامعة الأميركية ومدرسة المهندسين العليا والمجلس الثقافي البريطاني. تفاجأ الحاضرون بالصندوق الخشبي، الذي يشبه السينما بلا أن يكونها.

وفي إثر هذه الدهشة، التي انتظمت تجارياً، تقدم رجلا الأعمال، جو عريضة ووسام عز الدين، بطلب رخصة لإنشاء محطة تلفزيونية، وقد حملت إسم "شركة التلفزيون اللبنانية". وافقت الدولة على طلبهما، وبعد فترة، انطلق بث المحطة من داخل المدينة الرياضية، وذلك في أثناء أحد المعارض الصناعية، قبل أن تنتقل استديوهاتها إلى تلة الخياط، حيث افتتحت بحفلة رسمية، رعاه رشيد كرامي، الذي أخذ بالمشروع الجديد من نطاق التجارة إلى نطاق "الإجتماع والثقافة والوطن"، بحسبما جاء في كلمته.

إلا أن هذا الأخذ الرسمي من نطاق إلى آخر سيتكشف في حقبة لاحقة على أنه الرقابة، التي ستمارسها الدولة على التلفزيون، بدءاً بالتحكم بنشرات الأخبار وصولاً إلى ضبط برامج الترفيه. على كل حال، لن تبقى البلاد على محطة واحدة، بل ستزاحمها محطة أخرى، وهي "تلفزيون لبنان والمشرق"، الذي ستُباشر بثها في العام 1962، من مركزها في الحازمية. بعد ذلك، انطلق كل من المحطتين في هوائهما، اللذين رصدهما قيومجيان، وحاول التقاط أكثر المشاهد هبوباً عليهما. وقد جزأ هذه المشاهد-اللحظات، وبعد "البداية"، إلى فصل "مذاق المرة الأولى"، وفصل "العصر الذهبي والحرب"، وفصل "بين أربع مجانين وبس، وراجع يتعمر". هذا، وامتدت الفصول من بداية الستينات إلى نهاية الثمانينات، وطُبع كل منها بأحداثه وشخصياته، معطوفةً وظاهرةً في البرامج والممثلين والإعلاميين وغيرهم طبعاً.

في الفصل الأول، برز أبو سليم الطبل، وشوشو، وأبو ملحم، ومها عبد الوهاب، وحسن المليجي، وسميرة توفيق، بالإضافة إلى وحيد جلال، وإيفيت سرسق وإحسان صادق...هذه الأسماء، التي أطلت من الشاشة على الجمهور، وبعيداً من اختلاف تصويرها، تمثيلاً وتقديماً، سكنت الاستديوهات، وسعت بحضورها أن تكسب المُشاهدين. في بعض الأحيان، نجحت من تلقاء موهبتها، وفي أحيان أخرى، من تلقاء لخبطة أو خطأ في البرمجة: إيلي صليبي يعلن وفاة بشارة الخوري الذي لا يزال حياً، مذيع الأخبار كميل منسى يدفع سميرة توفيق وطبالها إلى جانب الشاشة كي يعلن موت جون كينيدي.. أم ملحم (سلوى حداد) تلعب القمار في حلقة من حلقات زوجها المحافظ والواعظ، مها عبد الوهاب تغني "جبلي اياه، خدلي اياه". لقد كان الهواء هشاً في ذلك الفصل، وكان من المحتمل أن أي عثرة فيه قد تصنع نجماً.

ازدادت الشاشة قوةً في فصلها الثاني، الذي شهد بروزاً لوجوه جديدة، من قبيل سونيا بيروتي "أخت الرجال"، ونجيب حنكش، وليلى رستم، وعبدالله الحمصي أو دويك، وأخوت شاناي، وماجدة الرومي، وعادل مالك... يُلاحظ في هذا الفصل هو التوازن بين البرنامج ونجمه، بحيث أن تلك الوجوه ليست وليدة لغبطة، أو هفوة مشهدية، بل أنها تُوجد بوجود مسلسلها أو حوراها. وفي هذا السياق، يندرج برنامج "استديو الفن"، الذي بدأ بإنتاج المغنين، و"تنجيمهم". مع الإشارة إلى أن مآل الشاشة لم يكن بمعزل عن خارجها، وما يتضمنه من تحول في الإجتماع والسياسة. إذ أن الصراع بين الريف والمدينة، والدفاع عن الأول في مواجهة الثاني، ظهر كعلامة محورية في عدد من المسلسلات، التي ذمت التمدن ورأت فيه محنة آتية.

وقعت الحرب، وبدأ الهواء بالتقهقر. إنقلاب عزيز الأحدب، مجرد مشهد مُجهض. البلاد تحاكي الوحدة في نشرة أخبار مشتركة بين الحازمية وتلة الخياط. أبو ملحم، وبعد إعادة إحدى حلقات مسلسله القديم، يُتهم بالإنعزالية، بسبب لفظه لعبارة "الغريب"، ويُفجر منزله في عاليه. فالهواء عاد ضعيفاً، وارتد على صُناعه، على الرغم من تلوينه، ومن إنتاجه الدرامي، الذي قطعته الثمانينات، وتركت شاشته للترفيه ولسياسة المعارك وحواراتها المشتعلة.

بين فصول ثلاثة، يدرك قيومجيان كيف يختار اللحظة من وقت الهواء التلفزيوني، مقدماً صورها، وسارداً قصتها، كأنه، بفعله هذا، يرغب في صناعة زمن الهواء من مئة لحظة متساوية من ناحية الإختيار للنافر في المشهد والمسلي داخله. فلا ريب أن رصد الهواء في "أسعد الله مساءكم" يبعث على التسلية المفيدة، كما يبعث على سؤال عن كيفية تأريخ المشهدة اليوم، في ظل الإفراط فيها إعلامياً، حيث المشاهد والمعلومات تصلنا من كل حدب وصوب، أكانت حاملة لأحداثٍ أو لا.

ربما، هذا ما يحيلنا إلى سؤال آخر، متعلق بـ"إقتصاد الإنتباه": إلى ماذا ننتبه اليوم، ما الذي يجذبنا، وما الذي يُعتبر منعطفاً في زمن المشهد ومكانه الهوائي وغيره؟ فعلياً، تأريخ قيومجيان لهواء تلفزيون لبنان، وإن سُحب على إعلام اليوم، سيتطلب من صاحبه تأريخاً للهباء، وهذه بلا شك مهمة صعبة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024