أشباح "السفير"

روجيه عوطة

الأربعاء 2017/01/04
تغلق جريدة "السفير" على عدد ختامي، وقبله على فيديو منشور في قناتها في "يوتيوب". ليس لقارئ الأول، وهو ذاته مُشاهد الثاني، سوى ان ينتبه الى تداخلهما، الذي ينتج هيئة محددة لنهاية تلك التجربة الصحافية، وهي هيئة الغبور.
يقوم العدد الأخير لـ"السفير" بالاستعادة، التي، وعلى اثرها، وقع رثاء الجريدة في لبس زمني. فحين ترجع "السفير" الى افتتاحيةٍ، كتبها رئيس تحريرها، طلال سلمان، في 14/4/1974، محولةً اياها الى "أطيب تحية وداع"، لا تكون على تماس مع حاضرها، وبذلك، تشير الى انها، ولكي تعلن نهايتها، لم تجد مناصاً من العودة الى احدى محطات بدايتها. ولا مبالغة في القول أن هذه المحطة، التي اختارتها لتشهر آخرتها، تختزل منطقها، و"مانشيتاتها".

اذ ان "السفير"، في العام 1974، وفي لحظة توقفها عن الصدور، هي "الجريدة المقاتلة" في "معركة الأمة المجيدة" ضد "الصهيونية والامبريالية والرجعية"، مثلما انها السباقة في الربط بين "العروبة والوطنية"، بالاضافة الى كونها الكشافة عن "قارئ" مناسب لها، لا يهتم بـ"طق الحنك" و"الانكلة".

عادت "السفير" الى ماضيها، اعتصمت فيه، وذلك، لكي تنزعه عن حاضرها، الذي استقر على التأزم، ولاحقاً، على الأفول. فقد اغلقت الجريدة صفحاتها على حلمها القديم. تمسكت به، ولم تستطع ان تتساءل ان كان حلمها هذا، صاحب اللغة الشبيهة بالقالب الأجوف، هو الطريق الى عاقبتها، ان كان هو الطريق، الذي ما ان يفتح، حتى يوصل سالكه، الى "الغياب والانطفاء" على حد سواء.

ثمة مشهد لإرتداد "السفير" عن نهايتها، يحمل عنوان "تحية من السفير"، وما هذه "التحية" سوى ظهور رئيس تحريرها، طلال سلمان، في مكتبه، وذلك، في اثناء كتابته على ورقة تحت عينيه، وفي اثناء "توقفه" عن الكتابة، وفي اثناء "إغلاقه" القلم بسدته. وفي الخلفية، خليط من صوت الريح وصوت ماكينات الطباعة. يقف سلمان، يتقدم من وراء مكتبه صوب المقعد، يتناول وشاحه، "يُطفئ" المصباح، ومن بعده، لمبة السقف. يفتح الباب، "يقفله"، وما ان يقدم على فعله الاخير، مختفياً، حتى تعود الكهرباء الى المصباح الصغير فوق المكتب، تنيره وتطفئه، تنيره وتطفئه، حتى تشعله بشكل كلي. وخلال هذا، يترافق صوت اللسعات الكهربائية مع صوت السيد درويش في "أهو دا اللي صار"...


يرسو المشهد، وبعد اختصار تحيته بظهور سلمان، على تمثيله ملتبساً، تماماً، كزمن العدد الاخير. فرئيس التحرير يكتب مقالته الختامية، التي يمكن الاعتقاد بأنها هي ذاتها المكتوبة في العام 1974. وهو لما يوقف جر القلم على ورقته، يوقف جر طباعة جريدته. ولما يُطفئ الانارة في مكتبه، يُطفئ ضوء جريدته، ولما يغلق الباب خلفه، يغلق باب جريدته.

أما عودة الكهرباء الى مكتبه، فتدلّ على ان جريدته مستمرة. لكن هذه الاستمرارية مكفولة بجو معين، أي بالجو الشبحي. فقد حلت النهاية، ولا مجال للقفز فوقها، لقلبها الى ديمومة، سوى بهذا الإصرار الشبحي، الذي يصاحبه غناء، بغيته درء الملامة، ودفع العتاب: الجريدة لم تقفل، بل انها، ولكي تجتاز نهايتها، أقفلت عائدةً الى أشباحها، الذين أناروها، ومع هذا، لم نرَهم. الجريدة لم تقفل، بل إنها، ولكي تجتاز نهايتها، قفزت الى ماضيها المهجور الا من أشباحه.

على ان "السفير" لم تعبُر نهايتها، ولم تعبُر حاضرها. رجعت، في العدد الختامي، الى ماضيها، وعادت، في مشهدها الختامي، الى شبحيتها، التي وجدت انها تضمن ديمومتها. وعلى الجهتين، وقعت في اللبس الزمني. 

ونتيجة ذلك، غبرت، اي أقامت في قديمها وقالبه، ومضت اليه، علّه يمدها بقوة تنكر آخرتها بها. فعلياً، يقول العدد الاخير ومشهده: "لا مجال للملامة، فبمقدور الاستعادة واشباحها ان تحول النهاية من افول الى قفول". فالجريدة ليست "سفير" الأفول، بل القفول، وهذا ما اعتادت ممارسته، وهذا ما جعلها تولي حاضرها لحتفها، وتستلم الى الماضي، حيث كانت وبقيت. 
لقد التبس الزمن على "السفير"، لكنها، وأخيراً، وجدت مكانها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024