أجهزة الحزن

روجيه عوطة

السبت 2017/08/26
إلى م.ن.
كلما زرتُ والدتي، انتبهتُ الى أن هناك موقفاً يحزنني في منزلها. إذ أنها تشرع في الكلام معي عما تشاهده في التلفزيون، وتخبرني عن أشخاصه، من مقدمي برامج أو ممثلين، بطريقةٍ، تبدو خلالها أنها تتحدث عن أناس، تلتقي بهم، وتتسلى معهم. 

وهي غالباً ما تخبرني عنهم بعد محاولتها الوقوف على شأني، اذ تسألني عن أحوالي، وعندها، ومن دون قصد، وربما بدقة، أجيب "رواق، تمام". فتنظر الي بعيني العتب، كأنها تقول لي "يا لك من تعيس، كيف تعيش خارج البيت، ومع ذلك لا تملك ما ترويه لي عنك أو عن غيرك؟"، بعد هذا، تبدأ بسرد ما تفرَّجَت عليه، وفي معرض سردها، تصف هذا الممثل بـ"الآدمي"، وتلك المذيعة بـ"المهضومة"، وذلك المطرب بـ"اللطيف".

في هذه الأثناء، أتردد في الإدلاء برأيي حيال أشخاصها، لا سيما حين أكون على معرفة ببعضهم، بحيث أجد أن ما تتصوره عنهم هو المناقض لما هم عليه. لا أدلي برأيي، بل أرد عليها بـ"والله؟ حلو، حلو!"، كي لا أبدد لها ما تحسبه أنه الخارج، الذي تستقبله ويستقبلها، تعطيه حضورها ويهبها الواقعات. أسكت، أحتفظ بحزني، وإذا فعلت العكس، أرى في وجهها، ملامح تشي بأن كلامي يشكك في عيشها، يلخبطه، ويغلقه.

لكن هذا الشعور بالحزن، وهو قريب من الأسى، لا ينتابني عند زيارتي لوالدتي فقط. فحينما سكنت لفترة في واحد من أحياء الأشرفية العميقة، كنت، وكلما خرجتُ لأسير في الشارع، أرى الناس في منازلهم، متمسمرين أمام التلفاز. وعندها، يعتريني الحزن إياه، إذ أنهم يقضون وقتهم في تلقي فيض من المشاهد، وطبعاً، على إثر هذا، لا يتوقفون عن الكلام عما تفرجوا عليه، كما لو أنها مجريات عيشهم الوحيدة، وكما لو أن الشاشة تُدخلهم عالماً لا حاجة لهم الى غيره من بعد انخراطهم فيه، أي استيلائه عليهم. فهذا الخارج، يصلهم مباشرةً وفورياً الى المنزل، ولا يستلزم منهم سوى الجلوس في إزائه، وتركه يجتاح وجودهم، قبل الاعتقاد بأن صُوره هي واقعاتهم، ولكي يؤكدوا ذلك، لا يتوانون عن سردها كفاعلين فيها. 

على أن حزني ذاته قد ينقلب الى ضجر وانزعاج، خصوصاً حينمت ألتقي بأصدقائي الذين لا يتحدثون سوى عما كتب هذا أو ذاك في "فايسبوك". فعندما يأخذ آلان، نوبة الكلام منا، نحن ثلة رفاقه وأصدقائه منذ عقد تقريباً، يبدأ بإخبارنا عما علق أحدهم على "بوست" غيره، مثلما يخبرنا عن آخر قضية متداولة في مواقع التواصل الاجتماعي، ويمضي في نقل آراء المستخدمين. 

ولا يكتفي آلان بذلك، بل أنه، وحين ينسى ما قاله فلان عن علان، يفتح هاتفه، وأحياناً، لابتوبه، ويقرأ لنا الكثير من المنشورات، ويرينا صوراً وفيديوهات، منتظراً ردود أفعالنا التي غالباً ما تجيء على شكلٍ لا يرضيه. اذ يتوقع منا التفاعل معه، لكننا نخيب ظنه، غير أن ذلك لا يمنعه من معاودة الكرّة في اجتماعنا المقبل.

فعلياً، الحزن الذي يستحوذ عليّ في منزل والدتي، وفي حي الأشرفية، وخلال اجتماعي بآلان، من الممكن الوقوع على سببه في غالبية أماكننا المجتمعية، حيث يمعن آهلوها في إدمان عالمٍ يظنون أنه الخارج، أكان جلبة تلفزيونية، أو تواصلية، أو مسلسلاتية، كأن يسلّمون عيشهم لأبطال أحد المسلسلات، لكي يحيوه عنهم، مالئين اياه بالوقائع والمجريات المتوهمة والمتخيلة.
 
إدمان على عالمٍ، مسمّم ولا صحة فيه، سرعان ما يفقدهم الإيمان بوجود آخر له، إذ أن الدخول اليه سهل، والمكوث فيه يسلبهم وجدانهم وطاقتهم، ويبعدهم عن نفوسهم، والإحساس بها، وحبهم لها أيضاً. عالمٌ يسيطر عليهم، ويجعل غير المندمج فيه غريباً عنهم، الى درجة أن أي كلام منه حيال ما يعتقدونه دنياهم قد يعرضه لنظرات الصدّ. انها أجهزة الحزن. الحزن الذي، ولما يشتد، يصير بثّاً، على ما علّمنا الثعالبي، وقد انتقلنا في تعاطيها، من الإيمان بما تقدمه لنا، إلى الإدمان على الاعتقاد بأنها النهاية، والأخطر أنها النهاية السعيدة ايضاً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024