إلى عماد حشيشو.. الوتر المفقود

أحمد عيساوي

السبت 2018/03/10
على مذبح الطرق وأرصفة لبنان المميتة نحتسب خساراتنا. لا يلبث عدّاد الموت أن يستكين، حتى يعود ليباغتنا في صباح آخر بإسم جديد سقط في سيارة جديدة في شارع معتم. ثمّة صف طويل من الضحايا ينتظر دوره خلف المقود، وثمّة قلوب ترتجف مع كلّ اتّصال هاتفي أو رسالة نصيّة تحمل الخبر، الكارثة.

ليس عماد حشيشو، "الراحل الكبير" الذي يعزف على عوده من أجل "عالم بلا خوف"، أوّل المغادرين، وحتماً لن يكون الأخير. وستتحوّل تلك النعوات اليومية إلى روتين نتمرّن عليه، وعلى ما يصاحبه من طقوس الحزن والبكاء والتحايا، كما يتمرّن عماد على أداء "ساكن في حي السيّدة" في "مترو المدينة".

رنين العود، لا صوته، هو ما سيفتقده أولئك الذين تعرّفوا عليه وأحبّوه، مع نعيم الأسمر وأحمد الخطيب، لأنّ عماد لم يكن أكثر "نُطقاً" من أوتار عوده الخمسة. وإذا ما نطق، فكلام في الوتر السادس، وتجربته في العزف تشبه كثيراً تجارب "موسيقى الحجرة" (مع فارق كبير في الشهرة لا ترجّحها الموهبة والمثابرة بل ظروف كثيرة). وكان فن "الحجرة" رائجاً في صالونات الأمراء، واستعاده العبقري التونسي أنور براهم في خلق علاقة بين الوتريات والتشارك المكاني. فأصبح الأداء في غرف مغلقة مع فرقة صغيرة، سمة الفنّ الذي جسّده عماد حشيشو.

ومَن لا يعرف عماد شخصياً، يجهل مدى حبّه لآلة العود، ويجهل أيضاً رغبته المذهلة في تعلّم المزيد من أساليب العزف العالمية. فانكبّ، خلال الفترة الأخيرة من حياته، تلك التي انقطع فيها عن بيروت، على قراءة وتعلّم كيفية كسر السلالم التقليدية في العزف. فأرسلتُ له مقطوعات لكلود ديبوسي وموريس رافيل، روّاد المدرسة الإنطباعية الفرنسية، وسألته لماذا لا يفكّر في السفر، فأجابني: "لأني أحب صيدا، مدينتي".

تعرّفت على عماد وعُوده في صالة صغيرة على طريق المطار، العام 2010. كنت قد أنهيت دراستي الثانوية، وأستعد للسفر إلى فرنسا، وكان حاضراً مع فرقة "الطفّار" لإطلاق ألبوم "صحاب الأرض". ومنذ ذلك الوقت، أصبحت أتابعه في كل محطاته، حتى تأسيسه مع رفاقه فرقة "الراحل الكبير" ليصبح "مترو المدينة" مسرحه وبيته الموسيقي وصالة العرض التي يحبّها.

بعد شيوع خبر رحيله، اتّصلتُ بغسان، فأخبرني أنّه التقى به صدفة منذ يومين، وهو الذي يعرفه منذ عشر سنوات، وأخبره عماد عن رغبته في العمل على أداء موسيقي تصويري يتناول الشعوب الهندية، والصور التي التقطها في الهند وجنوب شرقي آسيا.

ليس عماد حشيشو موسيقياً مشهوراً، كالسنباطي أو القصبجي أو عبد الوهاب. وليس عزفه كعزف أنور براهم أو نصير شمة. لكنّه كان، مثل هؤلاء، عاشقاً للعود إلى حدّ الإنفتاح على القوالب الشرقية كافة، من اللونغا والسماعي، والقوالب الغربية مثل الفلامنغو والتانغو، وكان يحبّ الجاز والعود الشرقي الكلاسيكي. وكان خلاصة كلّ الجمال المنبعث من الآلة التي تعاطى معها كمولودته، يتبادلان الحب، ويعيشان سوية الفرح والحزن والأمل والكآبة.

موت عماد حشيشو يشبه، إلى حدّ ما، موت شاعر شاب اسمه باسم زيتوني، قتلته شاحنة في في شارع بيروتي في أواسط التسعينات. وإن اختلفت ظروف الحادثتين، فإنّ أرصفة المدينة وطرقها تضيق بنا أكثر فأكثر، وتخطف أجمل شبابنا، وتحيلنا مجدداً إلى سرديّة الموت الحتمي في لبنان.


(*) توفي عماد حشيشو (30 عاماً) في حادث سير، فجر أمس الجمعة.
عزف العود مع فِرق شبابية وفِرق الموسيقى العربية التقليدية الناشئة، كما في مشاريع "هيب-هوب" محلية. كان عضواً أساسياً في "مجموعة أصيل" مع مصطفى سعيد. رافق نعيم الأسمر، وشانتال بيطار، وأمل كعوش، وفرقة "الطفار" و"كتيبة خمسة"، كما عزف في كنف فرقة "مَيَال" وغيرها… لكن المشروع الأكثر التصاقاً بشخصيته كان فرقة "الراحل الكبير" التي سجّل معها ألبومها الوحيد "لا بومب"، ورافقها في أمسيات محلية في "مترو المدينة"، وفي جولات خارجية.
ووري عماد الثرى في مقبرة صيدا القديمة، وتُقبل التعازي اليوم السبت وغداً الأحد في منزل الفقيد (للنساء)، وفي جمعية الأدب والثقافة بعد صلاة العصر (للرجال).

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024