الأحد 2015/01/25

آخر تحديث: 13:55 (بيروت)

سلَفيات لبنانية

الأحد 2015/01/25
سلَفيات لبنانية
increase حجم الخط decrease

استقرت ملامح الصورة اللبنانية على تجمعات أهلية، واضحة اللون وجلية الصوت واللغة. شكل الاتصال بين هذه التجمعات، التجاور القلق، وأشكال التواصل بينها، خطب فيها القليل من السياسة، والكثير من بلورة "الذات" وتأكيدها. في خيال كل "جمع أهلي" رؤية مستقبل تقوم على فكرة ماضٍ ممكن وضروري ومستحب، وذلك على وجه القدرة على استعادة هذا الماضي، وشحنه بطاقة استمرار حاضرة، تتوفر كل معطياتها "التعصبية" الكفيلة بحمله إلى أبعد من الأوقات الراهنة. كثرة التجمعات المحلية، جعلت لبنان الواحد كثيراً، ولأن الكثرة الجمعية "فرديات"، عند احتسابها في حساب المواطنة والأوطان، فإن لبنان المفرد، أي الوطن الواحد المعرّف تعريفاً بديهياً، أو معروفاً معرفة "تلقائية"، كما هي الأوطان، هذا اللبنان هو معطى مستفرد ومنكّل به، من قبل أبناء الفرديات المتجمعة حول تعريفات تجميعها"، والتي تقيد أفكارها وكلامها وممارستها، بسلاسل المصالح المادية، كما تقيد معطيات "كينونتها" بخيالات وطقوس هذه الكينونة، التي تنتقل من غابر الزمان لتحتل موقعها في صدارة "عصر الأهل"، وتلهم دوران آليات الاستمرارية السياسية والوجدانية و"الشخصانية"، التي لا تبتعد عن ماضيها إلا لتعود إليه. هذا الماضي يظل السلاح الأمضى والمرآة الأصفى، كلما كانت "العصبوية" سياسة، وكلما كانت "الفردية الأهلية"، وسيلة لتأكيد الحضور في جوار الفرديات الأهلية الأخرى.

 

قد لا يبتعد القول بالإرتداد اللبناني، وبالردة اللبنانية، عن وصف واقع الحال كثيراً. وقائع الارتداد، التي هي خسارة محصلة مسيرة واقعية اجتازها "سكان البلد"، يمكن سردها وتعدادها. هذه الوقائع لها محطاتها المحددة في التاريخ، وذات المعالم الواضحة في قراءة هذا التاريخ، وفي السياسة التي أدارت يومياته، وفي الخلاصات التي انتهت إليها كل "الرواية اللبنانية"، على الأقل منذ الاستقلال، وحتى تاريخه. أيضاً، ليس بعيداً عن حقيقة المشهد الحالي، القول بردة تطابق واقع التجمعات، مما يقرّب هذه الأخيرة من حالة "سلفية" مضمرة ومعلنة، لا يخفف من غلوائها في النطق وفي الممارسة، كل كلام التسامح والتعايش والانفتاح والتعاون...، هذا الكلام الذي يوغل في عجمته الوطنية، كلما قال أنه يجدّ في طلب الفصاحة المواطنية.

 

والسلفية، بما هي دعوة عودة إلى نهج السلف الصالح، لها وجودها اللبناني في صيغة سلفيات متعددة، لكل منها مرجعياتها "الدينية والزمنية"، ولها أيضاً رموزها وأزمنتها التي صارت طقوساً وشعارات، ونالت مرتبة القداسة، التي تجعلها سلفيات "تاريخية"، يُدعى إليها، من قبيل الحنين أو من قبيل إحياء الأوهام.

 

من صور السلفيات، أو من أشكال وجودها، صيغة الطائفية السياسية، التي مازالت تشكل "الغطاء السلفي" الأعلى، لكل السلفيات الأخرى، التي تستظل هذا الغطاء. وعلى سبيل الحصر، وليس على سبيل المثال فقط، يكفي تعداد الطائفيات السياسية الصغرى، أو المفردة في صيغة تجمعات وتجميعات، ويكفي الإطلاع السريع على أحوالها، للقول أن نعت هذه الطائفيات، مجتمعة ومتفرقة بالسلفية، ليس أمراً مجافياً للقراءة السياسية والاجتماعية، التي تحاول تبيّن ملامح المشهد اللبناني الراهن.

 

ضمن جردة الطائفيات، تأخذ المارونية السياسية بنصيب سلفي. إذ تحاول إحياء لبنانية صيغوية ما، وتطمح إلى "صدارة" مفقودة، وتحتفظ "بنصها المقدس" حول لبنان الرسالة، وتحفظ للأماكن دلالتها، وللصور رمزيتها، ولا تكف عن المناداة باحترام كل مكونات ذلك "الزمان الجميل"... هي سلفية لبنانية، لها نطقها ونظريتها، ولها كتابها وشعراؤها ورجالها، ولها خيالها وأسطورتها... أي لها كل ما لا يصير ماضياً، وما ليس ماضياً يبقى صالحاً لكل الأزمان اللبنانية.

 

الإسلام السياسي تتعدد سلفياته، وفقاً لتعدد قراء نصه، وما دام باب الاجتهاد مفتوحاً، فإن لكل مرحلة اجتماعية وسياسية تأويلاتها، ولأن الانحطاط العام هو سمة المرحلة، فإن "الاجتهاد" يأتي موسوماً بسمة الانحطاط الاجتماعي العام، أي أن الصدارة تكون للتكلس والنصوصية الجامدة، وللطقوسية التي تكبح وتلغي كل اجتهاد خلاّق.

 

ضمن الإسلام السياسي هذا، للشيعية السياسية سلفيتها الخاصة. يعلو صوت الطقوس. ينبعث ماضي الخلاف الديني بكامل نضارته. تتبلور شخصية "الفرقة الناجية"، التي تطمح إلى العبور من حالة النجاة إلى حالة الفوز بالبلد. وفي امتداد ذلك، يقفل نص المصالح السياسية على قراءة واحدة، هي قراءة أصحاب "الإحيائية الشيعية"، المدججة برمزية التاريخ، وثقل الديمغرافيا، وبصلابة الاجتماع على اعتقاد الأحقية والصواب.

 

السنية السياسية لها سلفياتها، وهي إذ تحاول استعادة صيغة لبنانيتها ولمحات عروبتها، فإنها تقع فريسة ما وصل إليها من سلفيات شقيقات. التاريخ هنا أعمى، وشدّة الردود تستقي عنفها من شدّة الأحوال التي باتت السنية عرضة لهجماتها. تتخذ السنية وضعية الدفاع، ولدى شعورها بالحصار، المادي والنظري، فإن فصائل عديدة منها ترد من خارج منطق محاولة الإقناع. تكتفي الجماعة بقناعتها، وتقارع قناعة الآخر، في ما يشبه حرب الوجود، والرد على كل حروب الإلغاء.

 

تتجاور الآن السلفيات الوطنية والتاريخية والمذهبية، لكنها لا تتحاور. للحوار شروط أخرى، وله قوى بديلة. ربما يفتقد البلد سلفية يسارية، تذكر بما كان لها أولاً، لعلها تستطيع أن تتجاوز لاحقاً سلفيتها، وتتطلع إلى مستقبل ينهض على أنقاض كل السلفيات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها