الأحد 2015/05/24

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

"انفراط معاني الصيغة اللبنانية"

الأحد 2015/05/24
"انفراط معاني الصيغة اللبنانية"
increase حجم الخط decrease

تحضر كلمة الصيغة اللبنانية على ألسنة السياسيين، كلما أراد أحدهم التعبير عن امتعاضه من مسالك الحكم الحالي، وتقرن الكلمة بالتوافقية والميثاقية، كلما رأى بعض من أقطاب الطوائف خطراً داهماً، يهدد ماضي الكلمات الثلاث، وينال من كلمة "العرف الوطني"، أي التواطؤ الذي قبلت به "الطائفيات" اللبنانية ضمناً، حول صيغة الرئاسات الأولى الثلاث، وقبلت به علناً، وبموجب نص صريح واضح، بعد اتفاق الطائف الشهير، الذي أسكت مدافع أهلية داخلية على جبهات عدة، وعاد عدم تطبيقه الكامل، ليفتح جبهات عديدة تختلف إسماً، ولا تفترق معنىً، خاصة إذا كان المعنى الدائم علل النظام الطائفي اللبناني، ودور كل طائفية وكل مذهبية في إدامة علله، وفي مفاقمة آلامه المصيرية.

 

يعاني الوضع اللبناني الراهن من فقدان معاني "اللبنانية الأولى"، ويمكن رؤية ذلك في البنود الأساسية لهذه اللبنانية. الفقرة التي قالت بألا يكون لبنان للاستعمار مقراً أو ممراً، سقطت على معنى غياب المستعمر، الذي كان يمثله التدخل الغربي، وحل محله معنى الهيمنة الخارجية، التي تقلبت مرجعياتها بين العربي والأجنبي والأعجمي. لقد "استعمر" الخارج القرار الداخلي اللبناني، بعد جلاء الاستعمار عن الأرض الوطنية، واسترهن استعمار الأخوة والأصدقاء والأقارب والحلفاء الحياة الوطنية، وبدلاً من التراب الوطني المحتل بقوة الجيوش النظامية، جرى احتلال البنى الطائفية المتنابذة، فالمتناحرة. باتت الحصيلة، والأمر، ما هو عليه، توطيناً لقرار الخارج وإرادته، والتحاقاً به وانخراطاً في برامجه، مما يقرِّب الحالة من القول، أن الطائفيات، ومن خلال قواها المهيمنة، باتت تلامس مصطلح "العمالة للأجنبي"، هذا إذا أراد البعض اعتماد المعنى الحرفي لهذا المصطلح، الذي لا يميز بين أجنبي صديق، وأجنبي شقيق، وأجنبي رفيق. وليس خافياً أن العلاقة التي تنظمها الوثائق والمعاهدات، تكون بين دولة ودولة، وليس بين فرد أو تجمع طائفي وجهاز استخبارات غير وطني، أي ليس من أهل الديار الوطنية، وليس من أهل الحفاظ على مصالحها الخاصة والعامة.

 

ولبنان الذي فقد استقلالية قراره، وليس استقلال أرضه، يفقد تباعاً معنى صيغته، فإذا كان التوافق المعبَّر عنه بالتوازن الطائفي، هو المضمون الأساسي للصيغة، أي لتجلياتها التطبيقية، سَهُل القول، ومن خلال ما هو ماثل للعيان من ممارسات سياسية، أن هذا المعنى الصيغوي قد أطيح به تباعاً. اتفاق الطائف أنتج "ترويكا" رئاسات، واتفاق الدوحة أنتج جمعية طائفيات، حاز كل طرف فيها على حق النقض، وعلى ترف التعطيل، وعلى اللامسؤولية عما يأتيه من تصرفات. لقد كان لكل "لا توازن" مؤاده العملي، وها هي النسخة الأخيرة من هذا اللاتوازن، تهدد بنقل لبنان كله إلى نقطة انعدام الوزن، التي تكون الإقامة فيها سباحة في الفراغ القاتل.

 

اللاتوازن الرسمي، الذي هو خروج على النص الوطني، أساسه لا توازن أهلياً أنتجته وفرضته تطورات واقعية، فيها الديمغرافي والاقتصادي والسياسي، أي كل الموارد والمصادر التي تجعل من حركة كتلة أهلية داخلية، حركة صاعدة أو طافرة، وتشير إلى حركة كتلة أخرى بوصفها حركة هابطة منكفئة.

 

تكريس اللاتوازن الحالي، في ميدان الحركة الأهلية وفي مناطق صنع القرار، أسبابه متعددة، لكن من بين الأبرز منها أمران، الأول هو عدم قدرة كل كتلة طائفية على إنتاج "فكرها التوازني" الكفيل بقيادة حركتها المتوازنة والمتزنة، والثاني، هو عجز النظام الطائفي اللبناني، في تاريخه وفي راهنه، عن تأمين القنوات الرسمية اللازمة لتأمين تصريف شحنات التبدل الناجمة عن الحراك الأهلي العام، وعن ابتكار الصيغ المتبدلة التي تستطيع مواكبة التطورات والمطالب الأهلية "والمجتمعية"، بما يمنع انسداد الأفق العام لتنفيس توتراتها، وبما يمنع انفجارها ويحول دون تحليقها فوق "الوطني العام"، وتجاوزه لكل أعرافه وصيغه ومواثيقه. لدى اللبنانيين شواهد كثيرة على انسداد قنوات النظام الطائفي، وعلى تحجر قوالبه، ولعل الحرب الأهلية التي انفجرت عام 1975، تشكل الدليل الأهم والأبرز على صمود النظام الطائفي في تخلفه وانغلاقه، وعلى مسؤوليته الأولى عن فتح الباب أمام كل السياسات التي أطاحت بالصيغة الاستقلالية اللبنانية، وما زالت نسخها الجديدة تنذر بقيادة الوطن الصغير، إلى المجهول السياسي والأهلي والكياني.

 

غياب اللبنانية الأولى على معانيها، أنتج لبنانيات عشوائية، تتصرف بالنص الأصلي للكيان، وتتصرف بالكيان ذاته. الناطقون باسم هذه اللبنانيات هم على قياس تدني أفكارها، وهم أيضاً من طراز "بهلوانيات" تُكثر من حركاتها، لكنها لا تثبت على حال، ذلك أن هدفها الأساسي هو "الإبهار الحركي"، وأخذ الانتباه لفترة وجيزة، إلى فرح اللا إنتباه. يختلف بهلوان السياسة اللبنانية عن بهلوان السيرك والاستعراض، في أنه يأخذ جمهوراً عريضاً إلى منحدر اللا إنتباه، ويبذل الجهد الحركي المتواصل، كي يظل هذا الجمهور أطول فترة ممكنة في وهدة لا انتباهية، أي في مركز اللا تفكير واللا تلقي وإدامة المتابعة بالعين والأذن فقط... فقط لا غير.

 

أيامنا اللبنانية الحالية فيها سيرك حرب لا تكفيرية ضد هجمة تكفيرية!! هكذا يقول رعاة السيرك. وفي السيرك أيضاً قتال دستوري مؤسساتي ضد تلاعب سياسي لا يملك هاتين الصفتين!! هذا ما يقوله أبطال هذا القتال. وفيها هجوم حداثي ديمقراطي محب للحياة، يقوده رهط من أبناء الحياة عموماً، ضد الذين لا يحبون الحياة!!، هذا حسب منطوق أبناء "الحركية الإحيائية الحياتية"... والحصيلة؟ طوائف ومذاهب وأهليات، ترش ملح يباسها على كل ما يتصل بأسباب الحياة الوطنية الطبيعية، ذات المسار العادي، الذي يستوفي الشروط الأولية لكل حياة وطنية.

 

ما العمل؟ مباشرة الحركة ضد كل سيرك بعينه، وضد كل السحرة الذين يطلقون من أكمامهم كل أفكار الاختناق، ويقتلون كل يوم كل أسراب الحمام.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها