السبت 2015/05/16

آخر تحديث: 12:08 (بيروت)

حكي جردي: أبو الميش.. قدَّسَ الله سرَّه

السبت 2015/05/16
حكي جردي: أبو الميش.. قدَّسَ الله سرَّه
increase حجم الخط decrease

في مدينتي الهرمل، التي وصلها التعليم الثانوي متأخرا قبل أربعين ونيف من السنوات، ولِدَ جاري سمير (اسم مستعار) وعاش في كنف عائلة شديدة الفقر، تنقل بين المدارس الرسمية وكان على الدوام متفوقاً في المواد العلمية، والأصح أنه كان متميزا في تفوقه بحيث تنبأ له أساتذته ورفاقه الطلاب بمستقبل علمي زاهر، بينما كان مستواه في اللغة الأجنبية متدنيا كسائر أبناء ريفنا. بعد نيله الشهادة الثانوية غادر إلى العاصمة بيروت قبل سنوات والتحق بالجامعة اللبنانية لدراسة الرياضيات، كان يحلم أن ينال –بسبب تفوقه- منحة إلى إحدى الجامعات الأوروبية لتحصيل درجة الدكتوراه، على أن يعود بعد ذلك إلى وطنه لمساعدة أهله الذين لم يبخلوا أو يوفروا جهدا في سبيل تعليمه وأخوته.

**  **  **  **

في جبل لبنان، الذي بلغته إرساليات التعليم الأجنبي قبل مئات من السنوات، ولد ميشال سماحة وعاش في كنف عائلة ميسورة ماديا، تعلم في أفضل المدارس الخاصة ونال إجازته العليا من إحدى الجامعات المرموقة، حيث كان قسطه السنوي أكبر من مبلغ المال الذي يجنيه والد سمير لتسديد متوجبات عيش عائلته في الأكل والملبس والدراسة.

**  **  **  **

في الجامعة، عانى جاري سمير مرارة العيش على مختلف الأصعدة، لم يكن المال الذي قدِر أبوه على تأمينه كافياً حتى لدفع إيجار الغرفة التي تشاركها مع زميل له، تركها بعد شهرين وصار يتنقل بين مساكن بعض الأصدقاء والمعارف، اكتفى بكتابة المحاضرات في قاعات التدريس وباختلاس النظر إلى كتب زملائه التي لم يستطع شراء أيّ منها، حاول تأمين عمل يكفي الحد الأدنى من متطلباته لاستكمال المهمة التي جاء من أجلها إلى بيروت لكنه لم ينجح في ذلك.

**  **  **  ** 

باكرا تقدم ميشال سماحة في صفوف حزب "الله والعائلة والوطن"، مع بداية الحرب الأهلية أوكل إليه زعيم حزب الكتائب الراحل بيار الجميّل مهمة التواصل مع الجهات السورية، فغادر سريعا "الثالوث المقدس" ووجد فيه "أهل الأمن" رجلهم المنشود ، ومع انتهاء الحرب وإقرار اتفاقية الطائف جرى ترفيعه لرتبتي نائب ووزير وعينه الرئيس السوري بشار الاسد مستشارا له مطلع هذا القرن. باستثناء رجال السياسة الشيعة الذين امتلكوا على الدوام قنواتهم الخاصة، صار معاليه محط أنظار كل الطامحين إلى رضا القيادة السورية.

**  **  **  **

وسْوَسَ الفقر الخناس في أذن جاري سمير، ودلَّه على بعض أقربائه وأبناء مسقط رأسه، وجدهم يتنعمون بأموال وفيرة من جراء تجارة حشيشة الكيف. في أوقات سابقة، كان قد لاحظ انتشارها في أوساط الجامعة التي ارتادها، فقرر أن يبيعها ليتمكن من الاستمرار في دراسته، من أجل ذلك قصد أحد التجار في الهرمل واستدان منه حوالي مائة غرام من تلك المادة التي اشتهرت بزراعتها هناك، حسب أن أرباحها المرتقبة ستكفيه لدفع إيجار غرفته لثلاثة أشهر، لكن حظه كان سيئا، ضُبط أثناء محاولته ترويجها، ذلك أمر طبيعي ومتوقع لأن التجار والموزعين يحظون عموما برعاية "أصحاب الشأن".

**  **  **  **

نادى ميشال سماحة -سفير "النوايا الحسنة" الذي زار العديد من العواصم للتباحث في أمرنا- على ميلاد كفوري الوسواس الخناس الذي "يفك الحَرْف" بصعوبة، وسأله الرأي، فأشار عليه الأخير بزرع الفتنة وقتل أبناء وطنه.

عقد الباحث الاستراتيجي –كما كان يصفه أهل بعض الفضائيات- العزم وتباحث –وفق اعترافه- مع اللواء السوري علي مملوك ونقل في سيارته عشرات العبوات الكافية لقتل المئات من أهله، لكن ميلاد تقمص الدور الذي طالما لعبه معالي الوزير، فنصب له وفرعُ المعلومات فخَّ الكاميرات، بحيث جرى القبض عليه بالجرم المشهود.

**  **  **  **

سجن جاري سمير خمس سنوات بسبب حمله مائة غرام من الحشيشة، هي بكل الأحوال  لن تضرَّ أو تقتل أحداً فيما لو وصلت إلى مدخنيها.

أما ميشال سماحة فقد حكم عليه قبل يومين بالسجن لمدة أربعة سنوات ونصف فقط لنقله عشرات الكيلوغرامات من المواد شديدة الانفجار، كانت ستقتل العشرات بل المئات من الأبرياء بهدف الإرهاب وزعزعة السلم الأهلي.

**  **  **  **

منذ خروجه من السجن السنة الفائتة، يمشي جاري سمير منكسراً في شوارع الهرمل، ينظر الكثير من الناس إليه بازدراء بعد أن خسر جامعته التي كان يحلم أن تكون بوابته الجديدة على الحياة.

غدا، أو بعد غد، سيخرج ميشال سماحة من سجنه، سيجد الكثيرين في استقباله، وسيعود إلينا غانماً ظافراً ليملأ حياتنا بكلامه المسموم.

**  **  **  **

بمعزل عن الحكم الملتبس الذي أصدرته المحكمة العسكرية بحق "أبو الميش"، فإن جريمته تستوجب الإدانة له ولكل من يقف وراءه: من لم يفعل ذلك هو شريك ضمني له دون أدنى شك.

**  **  **  **

إخراج ميشال سماحة من السجن بدل إعدامه أو حبسه مدى الحياة يعني أنهم أرادوا هذه البلاد "كَرَخانة" لسواد أعمالهم.

**  **  **  **

لا أعرف كيف سيكون حال بنات "المفكر" الثلاث، لكنني لا أحسدهن على ذلك، ففعلة الوالد الشائنة وصمة عار سيحملنها طويلا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها