الجمعة 2018/03/16

آخر تحديث: 15:52 (بيروت)

من مسلسل الزعزعة اللبنانية

الجمعة 2018/03/16
من مسلسل الزعزعة اللبنانية
جرى رفع الغطاء عن قامة كمال جنبلاط
increase حجم الخط decrease

في السادس عشر من آذار 1977، اغتال من لم يكونوا مجهولين قائد الحركة الوطنية اللبنانية، كمال جنبلاط. في الرابع عشر من آذار عام 1978، اجتاحت القوات الإسرائيلية أجزاء من الجنوب اللبناني، بعد عملية فدائية قادتها الشهيدة دلال المغربي. لم يكن اغتيال كمال جنبلاط أقل من اجتياح للبنية اللبنانية، وكان العدوان الإسرائيلي فعل زعزعة مستمر للجغرافية المكانية والاجتماعية التي تؤطر هذه البنية الهشة، في نشأتها وفي مسالكها للفوز بأسباب الصمود والبقاء.


دخول العدو الإسرائيلي بقواته إلى الجنوب، كان قد سبقه دخوله "الأمني"، الذي ساهم في إنشاء الشريط الحدودي العازل بين اللبنانيين، وقبل التدخلين، كان الطموح المعادي الدائم، إلى تحقيق اختراق سياسي للمعادلة اللبنانية، بهدف إسقاط لبنان في قبضة "السلام" الإسرائيلي. كان ذلك حلم قادة صهاينة سابقين، وخيِّل للقادة اللاحقين أن هذه الصيغة من سلام الاستتباع باتت ممكنة، بعد خروج مصر من معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي، باتفاقية مدمِّرة، ما زالت تداعيات خرابها تتوالى حتى الآن.


اجتياح آذار نقل لبنان إلى حالة صندوق البريد المفتوح، وإلى وضع ساحة الحرب البديلة، وجاء تتمة للشعار الذي أعلنه النظام السوري، أن أمن لبنان من أمن سوريا، وتحت راية هذا الشعار اجتاحت القوات السورية مناطق لبنانية عديدة عام 1976، وقاتلت خصوم يومها ذاك، لتعود فتقاتل لاحقاً من قالت أنهم حلفاؤها. دخول "أخوي" بقوات نظامية، وعدوان غريب بقوات نظامية أيضاً، ولكل من السياستين، الأخوية والمعادية، مصالح ظاهرها الأمن و"النجدة ومنع التذابح"، وباطنها الإمساك بقرار البلد الضعيف، الذي أهَّلته بنيته ليكون ميدان صراع ملائم، فأخذ المتصارعون ذلك على محمل "التنفيذ الفوري"، وأسهم اللبنانيون، على اختلاف فئاتهم وأحزابهم وطوائفهم، بحماس مشهود في هذا التنفيذ.


لقد رسم الإسرائيلي الخطوط المسموح بها للانتشار السوري، فقبل بها على شمال خط نهر الليطاني، وعندما حاول ذلك النظام اجتياز خط السماح إلى منطقة النبطية، قصف الإسرائيليون نقاطه، وأعادوه ليتمركز ضمن مناطق التقاسم – التفاهم، بحيث يكون كل طرف طليق اليدين في منطقة نفوذه. منذ ذلك التاريخ، شارك العدو والشقيق، في استنزاف البنية اللبنانية استنزافاً دموياً، وكل طرف مهَّد لسيطرته بسياسات قتل وترهيب في السياسة وفي الميدان. في سياق القتل هذا جرى استهداف القائد الوطني كمال جنبلاط، الذي كثَّف في شخصه رمزية الاستقلالية اللبنانية، وحمل دون مواربة صيغة سياسية واجتماعية، رأى أنها كفيلة بإخراج لبنان من حالة "المزرعة إلى وضعية الوطن". سقط كمال جنبلاط، وكان النظام اللبناني هو الداعم الأول لإسقاطه. لقد عجز أرباب السلطة يومها، وطيلة عقد سبق الحرب الأهلية اللبنانية، عن استيعاب الإصلاحية الجنبلاطية، فنبذوه وحاصروه، وعندما اهتزت الشوارع بحناجر الآلاف المطالبين بضرورة إدخال تغييرات على بنية وتوازنات النظام الشوهاء، رد النظام بالانغلاق. انغلق داخلياً وانغلق على متغيرات مسألة الصراع مع إسرائيل، أي انغلق على كل ما حمل كمال جنبلاط لواءه. الإقفال الداخلي لاقاه الإقفال العربي، وكان في طليعة حاملي قيود الإقفال "الجار السوري"، ولأن الاستبداد الطائفي "السائل"، حليف للاستبداد القومي المتحجر، جرى رفع الغطاء عن قامة كمال جنبلاط، فاستهدفها رصاص الإلغاء، الذي أكمل فاغتال كثيرين بعده.


من الخلاصة الآذارية السابقة: لقد تعرض لبنان إلى اجتياح صيغته، عندما اغتيل كمال جنبلاط، وإلى اجتياح رسم حدوده المحمية دولياً، بعد عملية الليطاني الإسرائيلية. الاجتياحان تكاملا في زعزعة استقرار البنية الاجتماعية وتوازناتها، فأضافا إلى النزاعات الموروثة الأصلية، عناصر نزاع حاد، جديدة. لقد فاقم ذلك، طبيعة الردود على الاجتياحين، فلقد عانت الردود تلك من كونها ناقصة وطنياً، لجهة عدم الإجماع عليها، فالعدو هنا حليف هناك، والعكس صحيح، ولجهة أنها كانت ناقصة اجتماعياً، لأنها قامت على فرز داخلي، اتخذ صفة طائفية واضحة في بعض مفاصله، وكان النقص المترتب على ما سبق، أن الردود لا تحمل صفة مستقبلية، لأنها افتقرت إلى الرؤية الوطنية الجامعة.


لم يبرأ اللبنانيون من "آذارهم"، فلقد أضيف إلى لائحة ضحاياه، الرئيس رفيق الحريري، الذي شكل اغتياله اجتياحاً جديداً للبنية اللبنانية، فلم تفلح قرقعة الانتصارات في حجب دويّ انفجار القتل السياسي، الذي ما زال مفتوحاً على أشكال من الاقتتال الصيغوي، في الكواليس وعلى أعلى المنابر. هكذا بدا أن كل الشهور اللبنانية غير "مطابقة" أو غير مستوفية لشروط السلامة الوطنية... لذلك ما زالت مفاعيل الاجتياحات تتوالى، منذ بدأ النظام الطائفي اللبناني مسيرة انطلاقه، ومنذ استجابت لنداء الإغلاق كل الطائفيات السياسية المتناحرة، بسلاحها المحلي، وبأسلحة كل الغرباء.


خلاصة الخلاصات اليوم، أن الطائفيات تجدد نظامها، أي أنها تستكمل اجتياحها البنيوي للميثاقية وللصيغوية ولإمكانية فتح حياة اللبنانيين على مستقبلٍ عاقل ومعقول. يتم ذلك بأسلحة الاستقواء بالخارج على الداخل، وبأسلحة تجهيل الدواخل الخاصة ضد الداخل العام، وبأسلحة الإفقار الذي طال الأغلبية الساحقة من اللبنانيين في عيشهم، لكنه ما زال عاجزاً عن توحيدهم سياسياً في حلبة فقرهم المجتمعي البادي للعيان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها