الخميس 2017/08/17

آخر تحديث: 16:53 (بيروت)

الحزب الشيوعي في سياسته الجردية

الخميس 2017/08/17
الحزب الشيوعي في سياسته الجردية
الشيوعية باتت يميناً بحكم تكلسها وتكيّفها مع السائد
increase حجم الخط decrease

انتظر الحزب الشيوعي اللبناني فرصة سياسية مدوية للإعلان عن الصورة الأوضح لالتحاقه بالسائد السياسي اللبناني، فوجد في معركة الجرود اللبنانية ضالته. ومن سياق المعركة العاثرة على الحدود الشرقية للبنان، صاغ بيان مغالطات سياسية وفكرية لا صلة لها بتاريخ الحزب الشيوعي الحقيقي، ولا اتصال لها بالمستقبل اللبناني، ولا تقيم روابط وثيقة بمهمات الحاضر التي تتيح بناء جسور اتصال بهذا المستقبل.

البيان الذي أعلن أن الشيوعيين سيكونون في قلب معركة تحرير ما تبقى من جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع، من المجموعات الإرهابية، لا يتعدى كونه تعبيراً آخر عن الأزمة الشاملة التي يتخبط فيها الحزب الشيوعي، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وحتى تاريخه جذور الأزمة الأعمق تكمن في التربة الفكرية التي جفَّ زرعها فما استطاع الحزب الشيوعي استصلاحها وإعادة استنبات نضارتها، وفي غياب المروج الفكرية نبت كل العوسج السياسي البرّي، الذي ما زال المسؤولون عن قيادة الحزب اليوم يعتنون بريّه ورعايته، ومن دون كبير تأمل مستند إلى لإعمال البصيرة الفكرية.

لقد انتقل الكلام الحزبي الشيوعي إلى المغالطات عندما اعتمد ذات الكلام الذي يقوله سواه، وإذا كان متاحاً لذوي المشارب الإسلامية أن ينطقوا بكلمة التكفير، فما شأن الفكر الشيوعي العلمي بهكذا مصطلح، طالما أن العقيدة الفكرية الشاملة للشيوعيين موصومة بالكفر والإلحاد؟ كذلك كيف يردد الشيوعي الحزبي كلمة الإرهاب، من دون أن يعود إلى تعريفها المعتمد عالمياً؟ مما ورد في تعريف الإرهاب، أنه كل عمل تقدم عليه الدول أو الأفراد أو المجموعات لتنفيذ سياساتها "بوسائل عنفية"، إذن ألا يجدر بالحزب القول إن الإرهاب، بهذه الصفة التعريفية بات ظاهرة عالمية، يشارك فيها من هو في الموقع الرسمي من دول عالمية وإقليمية وعربية، وهذا هو موقع الفعل، وينخرط فيها من هو في الموقع الشعبي والأهلي، من أحزاب وأفراد ومجموعات متفرقة، وهذا هو موقع رد الفعل. لو سلك الحزب الشيوعي هذا المسلك التعريفي للإرهاب لهان عليه النقاش في أصل الفعل لإدانته، والتحذير منه والدعوى إلى التصدي له، ولكان ميسوراً له النقاش في كل ظواهر ردود الفعل لإدانتها أيضاً والتحذير منها والدعوة إلى التصدي لها، وإلى عدم تجهيل الأصل عند استعراض واقع الفروع.

ولنعد إلى الأصل. يعلم الحزب الشيوعي، لكنه يتجاهل، أن أصل وجود المجموعات المناوئة للنظام السوري على حدود لبنان، وداخل جزء من أراضيه، هو فعل النظام في سوريا، الذي ردَّ على تحرك شعبه السلمي بالنار. لقد كانت "العسكرة" من فعل هذا النظام الذي ظنَّ أنه سيكون الأقوى في ميدانها، وظنَّ بعد ظنِّه الأول أنه سيكون شريكاً في المعركة ضد الإرهاب العالمي، من خلال تصديه لأشكال المعارضات التي أطلقتها البنية السورية من مخزونها الأهلي، ومن معطيات سيرتها المدنية الفاشلة. الاعتراف بالأصل هذا، يجعل المشكلة اللبنانية في الجرود مسألة دفاعية، على اعتبار أنها شرّ لا بد منه. وهكذا نظرة تعيد الدفاع إلى أصحابه، أي إلى الدولة اللبنانية حصراً، ومن دون شركاء، وتضع له إطاراً لا يتخطاه، فلا يندرج ذلك في إطار ما يروجه الحزب عن "الدولة المقاومة"، ولا يندرج في سياق المفهوم الشيوعي "للمقاومة الوطنية الشاملة"، بل إن المعركة محدودة جداً وفي سياق إزالة أسباب الأذى الذي صدَّره النظام إلى الحدود اللبنانية، وغضَّ البصر عنه، وما زال، لأسباب يعرفها جيداً الحزب، هذا الذي لا تغيب من ذاكرة أرشيفه يوميات العلاقة السورية اللبنانية وتعقيداتها.

وفي مجال تذكَّر الأصل، ليس جديراً بالحزب الشيوعي أن ينسى من شارك النظام السوري أفعاله ضد شعبه. عدم النسيان لا يعني دعوة الشيوعيين إلى اعتماد سياسة داخلية لبنانية في مواجهة سياسة شركاء هذا النظام، لكنها دعوة إلى عدم اعتماد سياسة أولئك الشركاء، وعدم الأخذ بمبرراتهم التمويهية التي أسقطتها الوقائع الميدانية تباعاً. ولعل المعادلة الأصح، في ظل الموازين السياسية المعروفة، هي: إذا لم تستطع النطق بالصواب فلا تنضم إلى جوقة المطبلين بالكلام الخاطئ. وعليه، فإما أن يقول الشيوعيون ما يستطيعونه من صواب، وهو كثير، وإما أن يصمتوا عن الجهر بالخطأ الذي يطل من سياسة حزبية هنا، ومن سياسة من هناك، جهرٌ خطورته كبيرة على الشيوعيين، وعلى سائر تراث ومستقبل اليسار اللبناني.

وعلى سبيل الاستطراد السجالي مع الحزب الشيوعي، لا وجود لما يسمى الدولة المقاومة، ولا وجود لشيء اسمه الحزب المقاوم. ما هو معروف أن الدولة عندما تتعرض أرضها وسيادتها للانتهاك، تقوم بالدفاع عنها، كواحد من واجبات الدولة عموماً. فالدولة لا تعرّف بجانب من جوانب مهماتها، ومسؤولية الدولة ليست مسؤولية أحادية.

المنطق ذاته ينطبق على الحزب، أي حزب. فما هو معروف أيضاً، أن الحزب ينفذ برنامجاً فكرياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً شاملاً، فإذا تعرّض بلده للاحتلال قدّم مهمة طرد الاحتلال على سواها من المهمات، لكن من دون أن يصير حزب المهمة الواحدة. وهذا ما فعله الشيوعيون اللبنانيون عندما اجتاح الصهاينة بلدهم في العام 1982. وهذا ما مارسوه جزئياً، أي كواحد من مهماتهم، قبل ذلك التاريخ. إذن، من أين أتت بدعة الدولة المقاومة والحزب المقاوم؟ أليست من بنات أفكار "حزب الله" الذي جعل الشيعية السياسية كتلة اجتماعية لا ميزة لها سوى "ميزة بنادقها"؟ هل يريد الحزب الشيوعي أن يهدر كل التراث الغني الخاص به والخاص باليسار، ليحيل "الشيوعية الوطنية" إلى بندقية؟ أي هل يتشبه بالثنائية الشيعية التي فرطت بكل "النهضة" التي حققتها الكتلة الشعبية الشيعية من مرحلة الاستقلال اللبناني حتى اليوم، فجعلت مرجعية هذه الكتلة مادة البندقية، وشعار القتال الدائم؟

الهروب إلى الأمام لن يجدي الحزب، بل الأرجح أنه سيغير من طبيعة الحزب، فلا يبقى من شيوعيته إلا اسمها. وللتذكير، فإن موقع الحزب بين شعبه، وعليه أن يعود إلى مسقط رأسه ليحفر "جبل التغيير بإبرة". ما سوى ذلك، ليس أكثر من طلب مقعد ضمن صفوف التشكيلة الحاكمة والمتحكمة. فإذا حصل ذلك سيكون مقعد تثبيت الحزب الشيوعي وثباته ضمن سياق سياسي طائفي مذهبي، يكون فيه الإسم الشيوعي، من دون معناه، زينة فولكلورية.

وللتذكير، الانقسامات الطائفية والمذهبية غير مصطنعة، كما ذهب بيان الحزب الشيوعي، بل هي حقيقية جداً وأصلية وأصيلة، وتجدد نفسها من خلال سياساتها، ومن خلال سياسة المنكفئين والعاجزين عن مواجهتها، شيوعيين وغير شيوعيين. لقد اختلط الأمر بين يسارٍ ويمين، وما يخشى منه أن الشيوعية باتت يميناً بحكم تكلسها وتكيّفها مع السائد وخضوعها لأحكام البنية التقليدية، وعدم الخروج عليها إلا مناسباتياً، وفي مواقع لا تنال من تماسك لحمتها الأصلية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها