الجمعة 2017/02/24

آخر تحديث: 08:20 (بيروت)

نظام الاستبداد الطائفي

الجمعة 2017/02/24
نظام الاستبداد الطائفي
لا يقيم المسؤولون اعتباراً لظهور وجوههم الديمقراطية الزائفة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

في لبنان نظام استبداد طائفي كان مقنَّعاً، وهو ينمو منذ سنوات نحو خلع مزيد من أقنعته الاستبدادية، من خلال سيرة سياسية وأهلية لا يقيم المسؤولون عنها والمنخرطون فيها كبير اعتبار لظهور وجوههم الديمقراطية الزائفة على حقيقتها. إذا كان كمّ الأفواه وقمع الحريات من صفات النظم الاستبدادية، فلا يصعب القول إن السياسية إيّاها التي اعتمدت عربياً معتمدة في لبنان أيضاً، وإذا كانت الدولة القمعية العربية هي من قامت بدور القمع واقتلاع الحريات، فإن المؤسسة الطائفية اللبنانية تتولى هذا الدور على الطريقة اللبنانية. في البلاد العربية قمع منظَّم بأداة السلطة وملحقاتها الدينية والثقافية والاجتماعية، وفي لبنان قمع "موزع" على مكونات السلطة وتوابعها الأهلية والدينية أيضاً. قمع أحادي المرجع في الجوار اللبناني، وقمع متعدد المرجعيات في "البلاد اللبنانية".

مقولة الحرية والتعبير تفقد مضمونها عندما يكون متعذراً تمتينها وحمايتها، وتكون شكلية جداً عندما يُمنع تحويل الكلام المتناسل في الصالونات والمنتديات إلى قوة تدخل اجتماعية تكبح جماع السلطة الأهلية المتغوِّلة، وتمنع انفلاتها في كل الميادين. لنقل إن المشار إليه هو استبداد أهلي يمنع بقوة السائد في مجموعاته، تبلور ونفاذ الرأي المختلف والمعترض، ويصير الرأي العام المتشكل ضمن كل مجموعة أهلية على حدة، سلاح القمع الناعم الأهم، الذي يؤدي غرض السلاح العاري، ويرد عن مالكيه الأهليين "شبهة" اللجوء إليه، أو المبادرة إلى استعماله. كثير من الوقائع خالف ويخالف إدعاء التسامح الأهلي، وما حصل في لبنان، وما يتوالى حصوله حالياً، يشهد لمسيرة قمع واستبداد لجأ إليها "الأهالي"، عندما بدا أن سيل الشارع الشعبي يتدفق صوب سدود منعهم المبنية بعناية، والمحروسة بقوة الدستور المعلّق، والقوانين الاستنسابية، ووظائف الأديان المتبدلة حسب الظروف وحسب الطلب.

السياسة تجري مجرى الاستبداد ذاته. المظهر الأساسي فيها ظاهرة التوريث الحزبي، بعدما غاب طيف واسع من الإقطاع السياسي وورثتهم عن حلقة التوليفة الحاكمة في لبنان. لقد حلَّ محل نفوذ الإقطاع السياسي الماضي، الذي تحالف مع البرجوازية التجارية، النفوذ الاقتطاعي الميليشياوي، فأخذ مكان "منافسه" القديم، وجدَّد التحالف مع البرجوازية إياها، تلك التي كانت ومازالت تدير نهب الحياة اللبنانية اللبنانية من خلال مراكزها المالية والمصرفية والتجارية، وتتكئ على سلاح حلفائها الجدد في تقاسم الغنيمة، من أمراء الطوائف وأمراء الحرب وأجزاء من ورثة الإقطاع السياسي الذين بدَّلوا الولاءات لأسباب خاصة تتعلق "ببيوتهم" السياسية، ولأسباب "مقاطعجية" ترتبط باقتطاعاتهم الخاصة التي استمروا في إدارة الشطر الأوسع من شؤونها.

يتولى التحالف السياسي الجديد الحاكم سد منافذ الحياة السياسية، فيجري مجرى من سبقه في تفصيل قوانين الانتخابات على قياسه، ويشكل اللوائح من "أهل بيته"، ويفرض على العموم الوطني اختياراته التمثيلية الخاصة به، ويعلق تطبيق القوانين، ويتجاوز على الدستور، ويسهم في بناء وحماية منظومة فساد يتربع على عرشها ناهبون كبار، ويدافع عنها في القاعدة ناهبون صغار. هكذا بات للبنانيين سارق "الجمل وسارق الإبرة".

وكما في الحرية والسياسة، يواجه اللبنانيون استبداداً نضالياً تتولى إدارته والإشراف عليه "منظومة المقاومة". مادة الاستبداد الترويجية الدائمة: الاستعداد للحرب المقبلة، ومضمون دعاية هذا الاستبداد المستدامة: تمنين اللبنانيين بتحرير الأرض، وسياسة هذا الاستبداد المتناسلة، اختراع معارك في الداخل وفي الخارج لتبرير استمرار الإمساك بالسلاح الذي يشكل "ضمانة لكل اللبنانيين"، وهو، أي السلاح، يشكل في واقع الحال تهديداً لسلاسة الحياة اللبنانية، لأنه يرفض ببساطة أن يكون جزءاً منها، أي أنه لا يرضى الاندراج ضمن الضرورات الوطنية العامة التي يتعاقد عليها اللبنانيون، ولا يقبل أن يكون جزءاً من نقاش وصياغة هذه الضرورات، بل إن "المقاوم الأبدي" يضع نفسه في موضع الاملاء والارشاد، ويجعل ذاته مرجعية لكل صواب سياسي، فيَهِبُ الملتحق والصامت واللامبالي، ويمنع عن المعترض والمخالف والمناوئ، وعندما يعزّ الإقناع بالحسنى، يكون لنمط الاستبداد هذا وسائله "الإقناعية" المفيدة.

وبعد، يتبادل أرباب السلطة الأهلية فنون المناورة والتحايل على كل شيء، وينفِّذون مطلب فصل السلطات على طريقة انفصال المؤسسات، فيصير كل مركز عمومي إقطاعة لصاحبه، هو فصل على طريقة الاستقلالية والمناوشة من "وراء حدود" المنصب، وكل منصب محميّ بجيش أهلي خاص يمكن تحريكه بإشارة من البنان.

وسط ذلك، يتحرك البعض ممن لا يريدون هذا الاستبداد، ويحاولون اعتراضاً ما في مواجهة السائد، لكن المعضلة تكمن في أن أولئك المحاولين يتقدمون غالباً من جهة الاحتجاج القاعد، ويكتبون برامج لنظام استبدادي فاسد، ويحجمون كثيراً عن تحليل بنية النظام وتشريحه بمبضع النقد الآخر، الذي يسمي النظام بأسمائه الحقيقية، وليس بأسمائه الميليشياوية الحركية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها