الجمعة 2017/01/20

آخر تحديث: 13:40 (بيروت)

جنرال الوقت

الجمعة 2017/01/20
جنرال الوقت
حرب مفتوحة، يزعمون أنها ضدّ النورس بينما هي ضد العهد (Getty)
increase حجم الخط decrease
مشكلة المواطن اللبناني مع النظام السياسي الذي يحكمه ولا يعجبه، ما زالت هي إيّاها منذ عقود: نبيه بري ووليد جنبلاط، أقوى ثُنائي في الجمهورية منذ ولادتها.


يمكن لمن يشاء التحدث عن أدوار أخرى مبعثرة بين السنوات والعهود لهذا أو ذاك من أصحاب الأسماء اللامعة، إلّا أن هذا الصنف من التسالي ليس في أفضل الأحوال أكثر من سحابة عابرة لا تُمطر ولا تحجُب الشمس. الحلف المعمدّ بدم الحرب الأهلية بين الزعيمين ليس في حقيقته حلفاً بين "أمل" و"التقدّمي الإشتراكي" بقدر ما هو حلف رجلين في وجه الآخرين.. جميعاً، إنّما من دون معاداة أحد. ولهذه التركيبة الباهرة مبرراتها العملانية البسيطة: فكلّ "آخر" يدخل على الخط، لا بد له من الحصول على جزء من جبنة السلطنة، أي جزء من غنيمة الثنائي الذي... لا يحبّذ تقاسم غنيمته مع أحد. أمام هذا الوضع الذي بات بلا مراء "حقيقة تاريخية"، لا بد بعد من مزيد من التصادمات واللعب على الحبال وتغيير الأقنعة وطرح المبادرات وتطيير الشعارات وبثّ الدُّخان. فالمهم ألّا يذوب الثلج ويظهر المرج. والمصيبة الأكبر تتمثّل بوصول رئيس مسيحي قوي إلى سدة الرئاسة بدلاً ممن كانوا يسمّونه بالرئيس التوافقي.

من هنا تنبغي القراءة في كتاب الإنتخابات (المفترض إجراؤها) من صفحة قانونها الذي يجري العمل، ليس على تغييره أو تطويره، بل على تأبيده. وهنا بالذات، يكمن التحدّي الكبير للعهد الجديد الذي ملأ البرّ والبحر بالحديث على "التغيير والإصلاح"، بينما الطرق الوحيدة المفتوحة أمامه هي التي تُدخله نفق التراجع والتخشّب للتشبّه بمن سبق، تحت تهديدات "جنرال الوقت" الذي يمر سريعاً نحو محطّة التمديد التقني الذي لا تضمن "تقنيته" قِصر عمره.

التاريخ العملي للرئيس ميشال عون، منذ أن كان ضابط مدفعية في منطقة تبنين الجنوبية في سبعينات القرن الماضي، وصولاً إلى "قصر الشعب" في بعبدا، لا يُبشِر الثنائي القوي بأيام رغيدة. لذلك، كان لا بدّ من فتح المواجهة معه، شريطة ألّا تكون صريحة ومباشرة، على اعتبار أن هذه الطريقة جرى استنفاذها خلال معركة الانتخابات الرئاسية كما يعلم الجميع، ولم تُفضِ إلى ما يُرضي. من هذه الزاوية تنطلق المواجهة تحت شعار"الخوف الإنساني على الأبرياء" من خلال مسرحية الطيران المدني التي يتوالى أبطالها في الظهور على الخشبة: الطائرات وركّابها (الأبرياء) من وافدين ومُغادرين، طيور النورس التي تُنسب لها ميولاً انتحارية داخل المحرّكات النفّاثة، يلي ذلك الكشّاشون والزمامير والمفرقعات تتويجاً بخرطوش الصيد. وهذا في حقيقته ليس سوى حرب مفتوحة، يزعمون أنها ضدّ النورس بينما هي ضد العهد... أولاً وأخيراً.

وفي دأب مُستميت لإخفاء حقيقة المشكلة القائمة في أجواء المطار على مستويات السلامة العامة والسياحة، والتي هي مشكلة مزابل لا مشكلة نوارس، لا حظوظ أبداً لافتراض النيات الحَسَنَة. فالمستنقعات (المصطنعة حديثاً) داخل حرم المطار بين المسارات الأرضية للطائرات ومدارج الإقلاع والهبوط (والتي لا يذكرونها) لم يقل أحدٌ إنها مخصصة لاجتذاب الطيور؛ إلّا أنها تجتذبها. أما مكبّ النفايات الفظيع المتخفّي تحت لقب المُنشأة السياحية التي كانت (كوستا برافا)، فهو، وبالاشتراك مع الساقية الآسنة المُسماة بـ"نهر الغدير"، لا يستدعيان المعالجة، أسوة ببقية المزابل والمكبّات التي عادت تزحف إلى الشوارع وتحت النوافذ. أما جهود السلطات والسلاطين فتنكبّ على تجريم النوارس وبالتالي الحكم عليها بـ "الكشّاشين"، ثم بالزمامير، ثم بالمفرقعات ومسدسات الضوضاء وصولاً إلى بنادق رُماة قَتَلَة يعملون بحمايات بشعة يستحقون وإياها المحاكمة. وكلّه في سبيل تحقيق "مُعجزتين": التغطية على الجريمة البيئية الرسمية المتمادية بتحويل البلد إلى مكب عشوائي عام للنفايات، وكسر دورة الطبيعة من خلال منع النوارس عن تناول غذائها، لا أكثرولا أقل.

وعلى خلفية هذ المشهدية البائسة تواصل طائرات الركّاب مناورات لم تُعدُّ لها أساساً خلال الإقلاع والهبوط، في ما "يُقال" إنه محاولات جاهدة من الطيّارين لتجنّب أسراب الطيور واحتمال كارثة تُحيق بالمسافرين أو الوافدين.

الحقيقة التي يؤكدها عارفون تُفيد أنّ الخطر من أسراب الطيور (وهو احتمال إفتراضي) يظلّ أخفّ وقعاً وتأثيراً بكثير من الخطر المؤكد الناجم بالضرورة عن حالة التلوّث البيئي المُدمرة التي تسببها الطرق الرسمية البائسة في نثر النفايات في البحر والبر تحت زعم معالجة المشكلة. وهنا، لا يمكن الاكتفاء بتحميل المسؤولية لما يُسمّى "قِصر نظر الدولة". فهذه تُهمة تعميمية لا تُصيب أحداً بذاته بل تُفرّغ الغضب العام ضدّ كيان معنوي لا يمكن محاكمته، بينما لا تبدو تحركات المعنيين فيه (وزير البيئة الجديد ومجلس الانماء والإعمال المتواصل) مُجدية ولا مثمرة. بل إن اللعبة السمجة التي تجري ممارستها على صنوبر الإعلام بعيون من زجاج ميت، تجتهد لتصوير الأزمة على أنها مسؤولية طائر النورس، هذا المحلّق اللطيف الظريف الذي لطالما كان أجنحة الأمل للتائهين على أمزجة أنواء البحار، والريشة الفضيّة الرشيقة التي تفتح بوّابات الأفق في ذروة عناق الأزرقين.

ثمة ما يحاول بعض رفيعي الرواتب والجعالات إقناع البشرية به، وهو أن أهم المهم اليوم بهذا الصدد هو إبعاد النوارس عن مسار الرحلات الجويّة المتوجهة من وإلى المطار مزدحمة بالركاب، تجنّباً لكارثة قد تُحيق ببضع عشرات أو مئات من المطمئنين على متون طائرات آتية أو مغادرة، في حين أن هذا الجانب من المشكلة، على مأساويته إن حصل لا سمح الله، لا تصحّ موازاته أبداً بالكارثة الأصلية المتمثّلة بأطنان الزبالة المتقاطرة صوب المطار، فضلاً عن بقية المكبّات (الرسمية والشعبية على أنواعها)، والتي وإن كانت بعيدة عن المطار ومسارات طائراته، إلّا أنها على ما نعلم وتعلمون، "تنزّ" سرطاناتها مباشرة هنا تماماً، في أرضنا، ولا تلبث أن تعود إلى موائدنا من خلال ورقة الخسّ وكوب الماء وبيضة الدجاجة ورشفة الحليب... وكل ما يتعدّى ذلك من المياه الجوفية والسطحية وكامل البيئة التي يجري تدميرها على رؤوسنا بشكل منهجي متوحش وباسم الانماء والاعمار، مع التذكير المستغرَب بأنه لا بلد آخر في العالم لديه مشاكل نفايات ولا نوارس.

فما هي المعركة التي ينبغي خوضها أولاً: البيئة أم الركّاب أم "كشّ" النوارس أم الزمامير والمفرقعات أم خرطوش الصيد أم الانماء والاعمار أم قانون الانتخاب أم... تحرير مزارع شبعا وتِلال كفرشوبا؟

السؤال ليس مطروحاً علينا... ولا عليكم، بل على العهد، المستهدف الأول والأساس.

فالمعركة باتت إجبارية لا مناص منها بين جنرال الجمهورية وجنرال الوقت الذي يمرّ.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب