الإثنين 2016/08/01

آخر تحديث: 00:56 (بيروت)

إذا أردت أن تعرف قانون الـ60.. إعرف لبنان 1960

الإثنين 2016/08/01
إذا أردت أن تعرف قانون الـ60.. إعرف لبنان 1960
قانون الـ60 كرس سيطرة الزعماء التقليديين على المناطق (Getty)
increase حجم الخط decrease
ترسم دراسة بعثة إيرفد، وغيرها، صورة لبنان الستّين، إقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً وصحّياً وثقافيّاً:


احتكار فئة صغيرة الثروة الوطنية. محدوديّة الصناعة وهشاشتها وتمركزها في العاصمة ومحيطها ومحدوديّة اليد العاملة الصناعيّة. اعتماد نحو نصف السكان (1,416،000 نسمة) على القطاع الزراعي بينما لا يشكل الإنتاج الزراعي سدس الناتج الوطني. تفاوت مستوى الدخل ومستويات الحياة في المدن نفسها، وفي ما بينها، وفي ما بينها وبين الأرياف. تمركز مؤسسات التعليم في جبل لبنان وبيروت، وكذلك الصحّة. ضآلة شبكة الطرق والبنية التحتيّة وحاجتها إلى تخطيط وصيانة. موازنة الدولة الضئيلة ونظام المحاسبة العامة المتخلّف والاعتماد على الضرائب المباشرة وغير المباشرة في ظل ارتكاز الإقتصاد على القطاع التجاري. فوزارة الزراعة، مثلاً، حصلت على 3,3 و2,10 في المئة من الموازنة في عامي 1959 و1960، ووزارة الصحّة حصلت على 4,2 و4,7 في المئة في العامين نفسيهما. بينما كان المستوى الصحي "مقبولاً" في بعض بيروت وبعض طرابلس، ودون ذلك في صيدا وزحلة وغيرهما من المناطق. وتلاحظ الدراسة تجمّع القمامة في الشوارع وانتشار البعوض والذباب والإدمان على المخدرات والكحول. والمستوى السكني "لا يليق بالإنسان المعاصر" في التجمعات الهامشيّة والأحياء الشعبيّة، فيما هو "مقبول" في بعض أحياء العاصمة، ودون ذلك في طرابلس وصيدا. وتعاني المدن تلك، وغيرها، من نواقص في شبكات المجارير ومسارب الأمطار والحدائق العامة والمساحات الخضراء والتنظيم المدني. ولا فعاليّة للشرطة، والحياة الاجتماعية ليست مثاليّة. فروح التعاون مفقودة والخدمات العامة لا وجود لها والتوترات الحزبيّة والطائفية تسود الأحياء الشعبيّة حيث معظم التلاميذ لا يكملون مرحلة التعليم الابتدائي.

وسط ذلك، كان صراع السياسيين على المقاعد النيابيّة والوزاريّة وما يترتّب على ذلك من منافع وامتيازات. وتُرجِم ذلك انقساماً بين الأحلاف الدولية والإقليميّة، ولاسيما بعد العدوان الثلاثي على مصر بقيادة جمال عبد الناصر (1956)، وما أعقبه من سجالات سياسيّة وطائفية، ثم انتخابات 1957 التي خسر فيها حلفاء "مصر العروبة" (كمال جنبلاط، صائب سلام وغيرهما). وقد دفع ذلك، ممّا دفع، لبنان إلى حرب 1958.

في هذه اللحظة وصل فؤاد شهاب إلى رئاسة الجمهوريّة. ووعد بتوحيد الوطن والشعب وتحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية والدوليّة. وأطلق ورشة تنمية الإنسان والمجتمع وبناء الدولة، كخطّين متلازمين لا يمكن التقدّم في واحد منهما من دون الآخر. وإذ شرع بنشر مؤسسات التعليم والتربية والصحة والخدمات الاجتماعيّة في المناطق، وإصلاح الإدارات وتأسيس جديد منها، راهن على كسر الاحتكارات والامتيازات من خلال قانون انتخابي. وكان قانون الستّين.

فقانون الستين، الذي تريد القوى الممسكة بالدولة والسياسة والمجتمع، تخليده وتجديد حصصها من خلاله، ولد من رحم مشروع بناء الدولة. وقد أراد الرئيس شهاب منه تجديد الطبقة السياسيّة وإطلاق عجلة بناء الدولة سياسيّاً، عبر تحويل الزعماء مرشّحين لا "يملكون" اللوائح والناخبين... وإتاحة الفرصة لمرشّحين آخرين. وإذ اعتبر، حين إعداد القانون، أنه يحقق شيئاً من ذلك، وقَبِلَ به على اعتبار أنّه "أفضل" من سابقه (1957)، أُصِيب بما يشبه الخيبة بعد إجراء الانتخابات. فالنتائج، وفق قانون الستّين، لم تُعد الزعماء التقليديين إلى الندوة البرلمانيّة فحسب، إنما أظهرت أنّهم يقبضون على مناطقهم التي حافظ القانون على معظم خرائطها. وبالتالي، وهذا هو الأهم، كرّسهم في السياسة، وبات مشروع التنمية وبناء الدولة تحت مرماهم.

فقد وفّر القانون الفوز لـ51 نائباً "قديماً" من أصل 99: 3 منهم للمرّة السادسة، 3 للمرّة الخامسة، 12 للمرّة الرابعة، 12 للمرّة الثالثة، 21 للمرّة الثانية. بل إن دورات الانتخاب الفرعيّة الخمس التي أُجريت وفق قانون الستّين، في عهد شهاب، حفظت لثلاثة "مرشّحين" الفوز بمقاعد آبائهم.

ومن دون تبرير، يبدو أن ليس صحيحاً أن محاولة "الحزب السوري القومي الاجتماعي" الإنقلاب على العهد (في اليوم الأخير من العام 1961) هي وحدها ما فتح الباب لتدخّل المكتب الثاني (الاستخبارات) في السياسة. هناك شراهة الأمنيين والعسكريين الذين أغراهم الأمر ولعب دور "حزب النهج والعهد". وهناك أيضاً نتائج قانون الستّين. وهذا من الدلائل على أن قانون الستّين، آنذاك واليوم، لمصلحة الزعماء والنواب القابضين على مناطقهم، ولا يوفّر فرصة لتجديد الطبقة السياسيّة في سياق مشروع بناء الدولة.

لم يخلُ تدخّل "حزب النهج والعهد"، أي المكتب الثاني، في السياسة والانتخابات من الاعتبارات الشخصيّة والماليّة. ولم يكن دائماً إنطلاقاً من حسابات سياسيّة تأخذ بالاعتبار مَن مع مشروع بناء الدولة ومَن ضده. كان في التدخّل مبالغة في الإرادوية التي تتوهم صوغ السياسة والفوز بها عبر الانتخابات. وهذا ما أثبتت السياسة والأحداث والانتخابات عدم صحّته. فثلاث دورات انتخابيّة، في عهد شهاب وفق قانون الستين، لم تنتج طبقة سياسيّة جديدة، بل كرّست التقليديين. وإذا كان فؤاد شهاب تقدّم إلى الشعب اللبناني باستقالته بعد انتخابات الستّين (20 تموز)، معتبراً أن في لبنان تجار سياسة وليس سياسيين، فإنه بعد انتخابات 1964 آثر الذهاب إلى بيته على طلب التجديد له من نوّاب أرادوا أن ينكسر لهم. وقد كتب بعد 6 سنوات رافضاً أن يكون مرشّحاً لرئاسة الجمهورية: "إن المؤسسات السياسية اللبنانية والأصول التقليدية المتبعة في العمل السياسي لم تعد تشكل أداة صالحة للنهوض بلبنان، ذلك أن مؤسساتنا التي تجاوزتها الأنظمة الحديثة، وقوانيننا الانتخابية التي فرضتها أحداث عابرة وموقتة، ونظامنا الإقتصادي الذي يسهل سوء تطبيقه قيام الاحتكارات، كل ذلك لا يفسح في المجال للقيام بعمل جدي على الصعيد الوطني".

فرغم وجود أسباب كثيرة أتعبت شهاب ومشروعه، إلا أن تدخل الأمنيين في السياسة وقانون الستّين يبقيان أبرز العلل. هما ما أخرج السياسة من المؤسسات الدستوريّة والديمقراطية. وهما ما اختزل السياسة بالانتخابات والطائفية، والقوّة والنفوذ بالفوز. وهما ما أعاد إنتاج تبعيّة المنتخِب والمنتخَب وصوريّتهما. وهما ما أجهض مشروع بناء المواطن الذي لا مشروع بناء دولة من دونه.

ورغم أهميّة إنجازات عهد شهاب، من إعادة توحيد لبنان وشعبه بعد حرب 1958، إلى إصلاح الوزارات والإدارات واستحداث العديد منها وتأمين التعليم الرسمي وتعميمه والضمان الاجتماعي وشق الطرق وبناء شبكات للري... الخ، إلا أن تدخل الأمن في السياسة وقانون الستّين لم يمنحا عهده "قاعدة شعبيّة"، بل سحباها منه. هكذا، بدت عريضة الـ79 نائباً، التي تطالبه بالقبول بالتجديد لنفسه لولاية ثانية، بلا معنى، لأن تلك الغالبيّة من النوّاب الآتية بقانون الستّين وبفعل تدخّل الأمنيين كانت بلا وزن سياسي.

لا غرابة، إذاً، أن تحب القوى السياسيّة قانون الستّين، فنتائجه محسوبة، بما في ذلك تعطيله قيام الدولة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها