الأحد 2016/05/29

آخر تحديث: 16:40 (بيروت)

قسوة نصرالله.. لوقف الانقلاب الحزبي

الأحد 2016/05/29
قسوة نصرالله.. لوقف الانقلاب الحزبي
يُحكم نصرالله إمساكه بكامل الحزب منعاً للفوضى وبروز ظواهر ومراكز قوى (Getty)
increase حجم الخط decrease
لتحذير الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله مطلقي النار في الهواء بإجراءات تنظيميّة قاسية، دلالات عدة.

فالتحذير المبني على معلومات يؤكد، أولاً، ضلوع حزبيين في هذه "المشكلة المذلة المهينة والعار"، وفق تعبيره. ولهذا بحد ذاته معانٍ كثيرة. فالتحذير يعني أن هذا الحزب الذي يتّسم، بل يتميّز عن غيره، بالتزام أعضائه بنظامه وآدابه و"شخصيّته العامّة" وقرارات قيادته، بات يضم أشخاصاً غير ملتزمين. ويوحي اتساعُ هذه "المشكلة"، ومعه حزم نصرالله وتشدده وتصعيده، بأن أولئك مجموعات وفئات.

ولا يمكن هنا تجاهل أن تدخل نصرالله، في هذا الشأن "التنظيمي" السلوكي، يأتي بعد اغتيال القائد "الجهادي" في الحزب مصطفى بدرالدين. لكأن نصرالله يُحكم إمساكه بكامل الحزب منعاً للفوضى وبروز ظواهر ومراكز قوى، تخرج عن قرارات الحزب المركزية وصورته العامّة وتفرض نفسها عليه وفي واقعه المعقّد.

لا يُزعج نصرالله إعلان وجود أولئك الأشخاص، أو تلك الفئات، في الحزب. والدليل أنه جاهر بذلك، وكان يمكنه أن ينفّذ "الاجراءات التنظيمية القاسية" بسريّة خلف ستاره الحديدي. ما يخيفه هو وجود أولئك في الحزب وسلوكهم المليشيوي وعدم انضباطهم. والفارق كبير بين إذا ما كانت تلك الفئات دخلت الحزب بتلك الشخصيّة المليشيوية ولم تتطبّع بآدابه و"شخصيّته العامّة" ولم تلتزم قراراته، وبين إذا ما صارت كذلك داخل الحزب.

فالحالة الأولى تطرح أسئلة سوسيولوجيّة وثقافية وسياسيّة وحزبيّة في شأن فتح الحزب أبوابه، منذ حرب تموز 2006 وانغماسه في الحرب السوريّة، أمام فئات جديدة تختلف عن طينته وتربيته الأخلاقيّة والالتزاميّة، بسبب حاجته إلى مقاتلين وهاتفين بالموت لإسرائيل والشيطان الأكبر "الجماعات التكفيرية". وأبرز تلك الأسئلة عما إذا كان الحزب قد أَولى اهتماماً لتربية هذه الفئات وتثقيفها وتنظيمها، أم أنه اكتفى بتدريبها عسكرياً وتجهيزها بالعتاد المذهبي ومقبولية "الشهادة".

والحالة الثانية تحمل أسئلة عن تغلغل ثقافة فائض القوّة المذهبيّة الحزبيّة والاستقواء بالسلاح وتحويله صندوق بريد مذهبي واجتماعي، داخل الحزب وبيئته. وأبرز تلك الأسئلة عن خطاب "حزب الله" وأداء قادته وتربيته بيئة واسعة بالجملة على ثقافة امتلاك الحقيقة والحق و"سلاحهما"، منذ 2005 حتى الحرب السوريّة المستمرة، مروراً بإنشاء المحكمة الدوليّة وقراراتها واتهاماتها وبـ"اليوم المجيد" 7 أيّار 2008 وتداعياته.

المؤكد أن تهديد نصرالله سيأتي ثماره. ولعلّه لن يحتاج إلى "الإجراءات التنظيمية القاسية". فكثيرون سيرتدعون خوفاً. لكن ذلك لا يعدم الدلالات التي منها أنَّ مطلقي النار، من أعضاء الحزب ومجتمعه، لم يستجيبوا سابقاً لنداءات نصرالله وما تتضمنه من تحريم ديني ونبذ أخلاقي لهذه "المشكلة". وليس عابراً أن يكون الخوف من "الاجراءات التنظيميّة القاسية"، أقوى من تلك النداءات ومضمونها الديني والأخلاقي. فهو يعني أن الانتماء (أو الانتساب) إلى الحزب بات، لدى تلك الفئات، أعلى شأناً من المضمون الديني والأخلاقي. كأن الانتساب هو الشرط الأول لتوافر الهوية الدينية ونيلها والتنعّم بها، بينما قامت الثقافة التأسيسيّة للحزب على عكس ذلك، أي على شرط توافر المضمون الديني والأخلاقي شخصيّاً لتحقق الانتماء الحزبي. وفيما يذكّر ذلك بتقديس الحزب في الأنظمة الشموليّة، يذكر أيضاً بالإنتساب إلى الحزب من أجل تأمين وظيفة أو منافع أو الإثنين معاً وما هو أكثر. ولا مفر ها هنا من الالتفات إلى دور الواقع المذهبي مقروءاً ومُصاغاً بثقافة الحزب وأيديولوجيّته، في تكريس تلك النظرات التقديسية والحمائية والانتفاعية.

إنقلاب المعادلة هذه، في مسيرة الحزب والحزبية، من الانتماء بالمفرق إلى الانتساب بالجملة، لم يجرِ تحت وطأة حاجة الحزب إلى "حملة سلاح" فحسب، إنما هو نتيجة "طبيعيّة" لدخول الحزب السياسة اللبنانيّة. فتحوّل الحزب إلى قوّة جماهيريّة مقاتلة، وفي ظل انقسام لبناني وإقليمي حاد، له ثمن بل أثمان. ودخول "المستنقع" اللبناني، بما فيه من معطيات أهليّة ومصالح وحاجات واستحقاقات في ظل غليان اجتماعي وإقتصادي، ليس نزهة. وقدرة الحزب الاستيعابية، مهما كان حجمها، محدودة مقارنة بـ"الطلب" منه وفي بيئته اجتماعيّاً وإقتصاديّاً. فالحزب تقريباً عاجز عن توفير فرص عمل ضمن الدولة، في ظل احتكار "حركة أمل" منذ عقدين ونصف، هذا الامتياز. وكذلك الأمر في معظم القطاع الخاص، وإن كان لدى الحزب وفي فلكه مؤسسات كثيرة، وهناك مؤسسات لا تتردد في إرضائه. وقد أسهم في السنوات الماضية في خلق فئات متموّلة وأعمال ومصالح.

لذا، تجده، في الضاحية حيث تمركز النزوح، أو في الأطراف، وفي الأيام العادية وبالمناسبات الانتخابيّة وغيرها، يهادن المجتمع ومعطياته ومراكز القوى فيه. وقد وصل الأمر في بعض الحالات إلى استناد هذا التشكيل الاجتماعي أو تلك العائلة إلى الحزب أو مركز نفوذ فيه، أو الاستفادة من وجود أحد أفراد ذاك التشكيل وتلك العائلة في الحزب، إضافة إلى استغلال هذا أو ذاك من أعضاء الحزب موقعه فيه أو الموقع الذي وصل إليه بسبب الحزب ونفوذه وماله. فبعدما كان معظم أعضاء الحزب، قبل التحرير و2005، معتزلين في المقاومة والحزب، استدار كثيرون منهم نحو المجتمع و"الحياة الدنيا". وبعدما كان الولاء للحزب أولاً وأخيراً، بات الولاء الاجتماعي وشبكة المصالح مرجعاً. وتزامن ذلك مع فتح الحزب أبوابه ونوافذه، فدخلته فئات جديدة، منها مطلقو النار في الهواء.

لا يعني ذلك أن الحزب قد فسد أو أنّ العد العكسي لعمره قد بدأ. هذه مبالغة وإسقاط أمنيات. ما زال الحزب قادراً على محاصرة تلك الظواهر. لكنَّ الإجراءات التنظيميّة لا تكفي في هذه الحال. الأمر يحتاج إلى ما هو أكبر، إلى تقويم الحزب وعلاقته بالمجتمع، وتقويم الحزبيين والحزبيّة، وإعادة النظر في الخطاب والثقافة التي تُعمَّم. فهذه، أو ترجمتها الشعبيّة، مُغرِقة في المذهبيّة، واستقوائيّة على المجموعات الأخرى و"مَن ليس معنا"، ولا تشغل الدولة والقانون مكاناً ناظماً فيها. وهذا خطير على الحزب نفسه. والدليل ليس تحذير نصرالله وحده إنّما مضمون كلامه، إذ لم يقل، كعادة الزعماء والأحزاب، إنه يرفع الغطاء عن مطلقي النار في الهواء ليأخذ القانون مجراه. إنّما هدّد بإجراءات تنظيميّة وكأن الحزب هو الدولة. فقوله بواحدية العقاب، من الحزب فقط، لا يعني نسيان الدولة فحسب، إنما يعني أيضاً أن مطلقي النار محميّون بانتمائهم أو انتسابهم. وهذا جوهر ثقافة الاستقواء والخروج على القانون والفوضى والفساد أيضاً. وهو جوهر انقلاب معادلة الحزبيّة من الانتماء والجهاد والعطاء إلى الانتساب والحماية والأخذ.. أو الانتفاع.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها