الأربعاء 2014/09/17

آخر تحديث: 13:11 (بيروت)

قناة السويس: الأحلام والخيبة

الأربعاء 2014/09/17
increase حجم الخط decrease

أعلن هشام رامز، محافظ البنك المركزي المصري، أن حصيلة شراء شهادات استثمار قناة السويس الجديدة بلغ 49 مليار جنيه مصري ، الخميس الماضي، أي بعد أسبوع واحد على طرحها ، متوقعاً إغلاق باب البيع مطلع الأسبوع الجاري، بمجرد الوصول إلى حصيلة 60 مليار جنيه المستهدفة  لتمويل المرحلة الأولى  للمشروع القومي العملاق. ويبدو الإقبال الكثيف على شراء الشهادات مفهوماً في ظل معدل فائدتها السنوية المرتفع (12%)، والذي يتجاوز الفائدة على الودائع والشهادات البنكية في السوق المحلي بنسبة 20% في المتوسط، إضافة إلى ضمان وزارة المالية للأصول النقدية المودعة في شهادات المشروع  وفوائدها، ما يمنحها  الضمان الحكومي نفسه للودائع المصرفية، وهو ما يوفر لها حماية شبة مطلقة من احتمال المخاطرة، حتى ولو تعثر المشروع لأي سبب.

منذ الإعلان عن المشروع،  شككت وسائل الإعلام المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين، وبعض التيارات العلمانية المعارضة، في الجدوى الاقتصادية للمشروع  والتي تحددها في الأساس عوامل تتعلق بحركة النقل والتجارة الدولية، أكثر من سعة القناة ومستوى خدماتها. بل اتجه البعض إلى ادعاء كارثية تبعات المشروع وطريقة تمويله. ادعاءات يدعمها غياب شبه كامل لدراسات تفصيلية للجدوى، تبرر التقديرات الجزافية من جانب الحكومة لمردود المشروع اقتصادياً، إضافة إلى قلق مفهوم من نسبة الفائدة المُبالغ فيها للتمويل وتحميلها الموازنة العامة لأعباء متزايدة كان يمكن تلافيها باللجوء إلى مصادر تمويل محلية ودولية بفائدة أقل بكثير، ناهيك عن مخاطر تأثير ارتفاع نسب الدين الحكومي المحلي، والتي تعدّت حدود الخطر بالفعل، على معدلات التضخم.

وبالفعل، فإن الأرقام التي أعلنتها المصادر المصرفية، والتي كشفت بأن 90% من حصيلة الشهادات جاءت من ودائع القطاع المصرفي المحلي وبنسبة 80% جاءت من أفراد لا مؤسسات، تؤكد أن طريقة التمويل التي اعتمدتها الحكومة لم تجذب استثمارات جديدة للسوق، بل حرمت البنوك من نسبة تتجاوز 5% من أرصدتها المتاحة للإقراض. وبالتالي تراجع فرص الإستثمارات المحلية، وتحديداً المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تعاني بالفعل من أزمات في التمويل والسيولة النقدية، خصوصاً بعد لجوء القطاع المصرفي إلى رفع نسب الفائدة على الإيداع والإقراض، خلال الأسبوع الماضي، لمنافسة شهادات القناة.

ورغم أن تلك الإشارات المبدئية تؤكد محدودية المردود الاقتصادي الإيجابي لحملة التمويل، إن لم يكن العكس، فإن الدلالات التي طرحتها وتيرة شراء الشهادات المحمومة، والتي غطت في أسبوع واحد معظم المبلغ المستهدف وتوقعت له الحكومة ستة أشهر، تحمل ما هو جدير بالتأمل.

تحتل قناة السويس مكانة مركزية في المخيلة الوطنية لعموم المصريين، ومفهومهم عن السيادة الوطنية وهويتهم الجمعية ترسمها افتتاحيات الكتب الدراسية في المرحلة الابتدائية عن موقع مصر الاستراتيجي وقناتها التي تربط شرق العالم بغربه، وروايات الحفر الأول التي حصدت أرواح فقراء المصريين من العاملين بالسخرة، وأسطورة الخديعة الأولى عن ديلسيبس وطبق المكرونة، ومرويات تاريخ طويل من السيطرة الأجنبية على القناة والاستعمار الغربي والنضال ضده، التأميم والعدوان الثلاثي، وإغلاق القناة والعبور.. ما يجعل القناة رمزاً يلخّص تاريخ الوطنية المصرية وتضحيات شعبها، أكثر من أي قيمة أو مؤسسة أخرى في التاريخ المصري الحديث. من هنا، كان تدشين نظام 30 يونيو لحملته الوطنية بمشروع القناة، مستنداً إلى رصيد لا يمكن للمصريين سوى الاصطفاف خلف عنوانه، وجعلها النظام دافعاً للالتفاف حول وعوده بالرخاء المستقبلي للأجيال القادمة من جانب، والوفاء للماضي الوطني و تضحيات الآباء من جانب آخر.

الاكتتاب الشعبي لتمويل المشروع، والمقتصر على المصريين – وإن لم يكن أفضل الوسائل اقتصادياً – يُحيي ذاكرة تأسيس بنك مصر ومؤسساته، مطلع القرن الماضي، والخطوات الأولى نحو تأسيس اقتصاد وطني مستقل بالاكتتاب الشعبي، وعودة إلى روح المشروعات القومية العملاقة التي نفذتها الدولة في العهد الناصري. هكذا، لا تُعدّ شهادات القناة استثماراً مالياً ناجحاً ومضموناً لحاملها فقط، بل تمسي صكاً فردياً وشخصياً جداً، مبشراً بعودة إلى أزمنة المشروع الوطني، بنك مصر و السد العالي في آن واحد، على اختلافات وتضادات مرجعياتهما الأيديولوجية. يستغل المشروع وشهاداته، بعائدها المادي السخي، دافِعَين نفسيَين متضادين، على الأقل نظرياً: رغبة المواطن الفردية والبراغماتية البحتة في الكسب، وفي الوقت نفسه، رغبة الفرد في التضحية والانتماء إلى مشروع جمعي أكبر وأكثر اتساعاً، بطول الوطن وعرضه، وبعمق تاريخه ونضالاته. وفوق ذلك كله، تمنح شهادات القناة للمواطن وهماً بالفاعلية في المجال العام، وبالمشاركة في تحديد مصير الوطن ومستقبله، يعوض تقييد ومحاصرة النظام لكافة صور الفاعلية والمشاركة الفعلية،  سواء السياسية أو المجتمعية.

يحقق النظام المصري أكبر مكاسبه اليوم داخلياً، بالنجاح الكاسح للاكتتاب في شهادات القناة، والذي يعتبره مؤيدو النظام دليلاً دامغاً على شعبيته ووحدة الصف الوطني. وفي الوقت ذاته، تدفعه الحرب الدولية على "داعش" إلى توطيد موقعه الأقليمي وتدعيم شراكته مع الولايات المتحدة والغرب. ومع هذا، علينا ألا ننسى أنه بقدر الوعود وزخم الأحلام العظمى، كذلك تكون خيبات الأمل وغضب حاملي شهاداتها والمؤمنين بها.     

 

increase حجم الخط decrease