الثلاثاء 2014/08/26

آخر تحديث: 21:59 (بيروت)

الإعلام والجمهور المُفترى عليه

الثلاثاء 2014/08/26
increase حجم الخط decrease

التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي، يوم الأحد الماضي، لفيفاً من الصحافيين والإعلاميين المصريين للمرة الثانية في أقل من شهر.

فعقب لقائه ببعضهم، مطلع الشهر الجاري، دعا إلى إعادة ترتيب أولويات الإعلام المصري والتركيز على مفهوم الإحساس بالخطر، وها هو يعود في لقائه الأخير برؤساء التحرير وقيادات المجلس الأعلى للصحافة، ليؤكد على محورية دور الإعلام في ما يخص تلك الإخطار، ليس بوصف الإعلام أداة لتوعية المواطنين كما في لقائه السابق، بل بوصف الإعلام نفسه مصدراً لذلك الخطر.

في تقرير عن اللقاء الأخير، نشرته صحيفة "المصري اليوم" بعنوان "السيسي يكشف أسماء أربعة مشاريع إعلامية تمولها قطر وتركيا والإخوان لتدمير العرب"، تؤكد الجريدة إلتزامها بأولويات العمل الإعلامي وفقاً للسيسي، مركّزة على الإحساس بالخطر الداهم، لكن من الإعلام هذه المرة. يسمّي السيسي مؤسسة "ميديا ليمتد" وموقع "العربي الجديد" وقناة " مصر الآن"، و أخيراً موقع إلكتروني باسم "كلتشر"، كأركان لمؤامرة رصدت لها قطر وتركيا وجماعة الإخوان ملايين الدولارات، "لبث الفوضى في الأمة العربية، وزعزعة الدولة المصرية، وتدمير الشعب المصري". 

لا تفاجئنا نظرية المؤامرة الساذجة في تصريحات السيسي، كونها ركناً أساسياً من خطاب دولة 30 يونيو، وربما مسوغ شرعيتها الوحيد. لكن الجدير بالتأمل هنا، هو المبالغة المفرطة في تقدير قدرة الإعلام ومدى تأثيره. فكيف لموقعين إلكترونيين وقناة فضائية وشركة للإنتاج الفني، القدرة على زعزعة دولة، لطالما افتخر ساستها ومثقفوها بتماسك مؤسساتها، التاريخي شبة الأزلي؟ وكيف تدمّر شعباً لم يتوقف السسيسي نفسه عن الإشادة بوعيه ووطنيته وعراقته؟ بل وكيف تشيع الفوضى في الأمة العربية على اتساعها؟

تكشف تصريحات السيسي فرضياتٍ ثلاث رائجة حول الإعلام وعلاقته بالدولة والجماهير، تتمحور حولها خطابات المؤامرة على تنوعها. فأولاً، افتراض هشاشة فجة، أصيلة ودائمة،  لمؤسسات الدولة والمجتمع بوجه عام، وفي مواجهة تأثيرالإعلام تحديداً، وتستدعي بالضرورة إجراءات استثنائية وطارئة، لها صفة الاستمرار، للحفاظ على تلك الدولة وحماية تماسك مجتمعها من الإنهيار المحدق. إجراءات لا تحتمل الإختلاف أو صيغاً للتنوع، لا في المجتمع ذاته، ولا في منابره الإعلامية. تقود تلك الهشاشة المدّعاة، إلى فرضية ثانية، حول علاقة المجتمع بالمؤسسات الإعلامية، تختزلها في علاقة تلقٍّ سلبية، أحادية الاتجاه، تستدعي تصوراً عن الجماهير بوصفها سهلة الانقياد، منزوعة الإرادة، وغير قادرة على التفكير النقدي في مضمون الرسائل الإعلامية. وبالتالي، جماهير مستسلمة لتشكيل وعيها بشكل فوقي بلا أدنى مقاومة، وفي انصياع كامل.

وبينما تقدّم الفرضيتان السابقتان تفسيراً للمبالغة المفرطة في تقدير الخطر الإعلامي بشكل عام، إلا أنهما لا يقدمان إجابة على سؤال آخر لا يقل جوهرية: فكيف لتلك المؤسسات الأربع، والتي ما زالت كلها في طور التأسيس، القدرة على مواجهة المئات إن لم يكن الآف من المؤسسات والمنابر الإعلامية العريقة، المملوكة للدولة والمستقلة، ذات الحس الوطني والالتزام المهني بطول الوطن العربي وعرضه، ثم الإنتصار عليها في الاستئثار بوعي الجماهير وخداعها؟ تكمن الإجابة على هذا السؤال، في فرضية ثالثة، هى الأكثر ابتذالاً وتحقيراً للجماهير، ترى في المتلقين نزوعاً طبيعياً للاستسلام للرسائل الإعلامية المغرضة والمشوهة، وتفضيلها على مقابِلاتِها ذات المضمون الأصدق والأكثر مطابقة للواقع.

لا ترجع خطورة تلك الفرضيات الثلاث، المضمرة في تصريحات السيسي، إلى استدعائها الحتمي للوصاية على الجماهير غير القادرة على التمييز، والجانحة إلى المضمون الإعلامي الأكثر زيفاً، بطبيعتها، والرقابة على مؤسسات الإعلام، وتقليم فحوى رسائله بشكل سلطوي يضمن مطابقة المحتوى للحقيقة بحسب رؤية النخبة الحاكمة وأولوياتها. بل بالأحرى، ترجع إلى إجماع بين معظم المعسكرات السياسية المتصارعة في مصر، على تلك الفرضيات، مع اختلاف على تفاصيل تجلياتها. فجماعة الإخوان المسلمين ترى أن سقوطها المريع يعود حصراً إلى حملة إلاعلام ضدها. ويرجع الكثيرون من المنتمين إلى التيار العلماني المعارض، صعود دولة العسكر وسحق الثورة، إلى التشويه الإعلامي المتعمّد للحقيقة، والترويج لخطاب سلطوي قمعي. وبينما يستدعي ذلك الإجماع استبداداً لا مناص منه من طرف السلطة، أياً كانت، تقف فرضياته الأساسية عائقاً أمام أي محاولة للنقد الذاتي والمراجعة لدى خصومها ومعارضيها. فالإعلام وجماهيره المنقادة، دائماً لبّ الأزمة وتجليها الأوحد.

increase حجم الخط decrease