الخميس 2015/09/03

آخر تحديث: 07:49 (بيروت)

شوائب الحِراك وحسَناته

الخميس 2015/09/03
increase حجم الخط decrease

شوائب عديدة تعتري الحِراك الأخير، وقد تكون ناجمة عن عفويته وعن مضار التلفزيون وتغطياته "الحية": سعادة مفاجئة اعترت المشاركين به...بل إفراط في السعادة، كان ضرورياً، ولكنه تحول إلى شعبوية مزهوة، وفولكلورية وانتصارية؛ وتسخيف كل ما سبقها، من شغل الأجيال "الفاشلة"، جعلها تتصور بأن الحناجر المتحدّية وحدها تصنع الإنجاز، وبأنها وحدها أفسدت صفقة المناقصات الخاصة بالنفايات، وحدها حشدت كل هذه الأعداد... فكانت موقعة وزارة البيئة، تلك الدعْسة الناقصة، التي سوف تفرض على قيادة الحملة التفكير، مع بقية المجموعات في كيفية استكمال الحِراك على الوجه الأكثر تنظيماً، أو المختلف منجهية. وهذه مهمة، المحمولة أساساً على أكتاف شبابية، تحتاج إلى الذاكرة، لا إلى حاملي الذاكرة، ممثلي الأجيال السابقة، وقد اعتلى بعضهم منبر الحِراك، بصفتهم أصحاب "نصيحة" و"تجربة"، فاستعادوا أدبيات اليسار التقليدي، كأنهم اليوم في فجر عصر بولشفي جديد.

هذا كله لأن تأييد الحِراك وإنشاد المدائح بحقه صار من أصول الصوابية السياسية (politically correct) اللبنانية في هذه اللحطة الراهنة: ما من طرف، سلطة حاكمة أو غير حاكمة، إلا وهو يفهم، أو "يتفهّم" مطالب المتظاهرين ويحتضنها ويؤكد على أحقيتها..."ولكن!...". التلفزيون، أو بعض محطاته، "ال بي سي" و"الجديد"، حلّق عاليا في نفخ قدرات الحِراك وتقديسه، وأسرع في خلق أيقوناته، وفي استضافة من يرفع سقوفه، وفي تعبئة جماهيره. ومن بين المتنافسين على مختلف أصناف الكعْكات، بدت هذه الأقنية كأنها الرابح الأكبر، في كل شيء: في الجمهور طبعاً، وبالتالي الإعلانات، ولكن أيضاً مع السلطة السياسية التي تخوض معها "كباشات" معهودة، لا تحصل إلا بين "الكبار". ويبقى ان خطر "الصوابية السياسية" يتعايش مع نقيضه، الخطر اليساروي، وتزاوجهما يسمح لرجال النظام الفاسد، بخبثهم المألوف، أن يتغلغلوا في ثنايا الحِراك.

ولكن كل ما سبق لا يلغي حسَنات هذا الحِراك. فهو كسَر قاعدة الإنقسام السياسي التقليدي، بين 14 و8 آذار، وهزّ الخمول السياسي الذي أصاب الحياة السياسية في لبنان، وأثبت ان اللبنانيين بوسعهم خوض تجارب سياسية جديدة، رغم كل شيء. وهو سجل للذاكرة الجماعية اللبنانية أوقاتاً لا تنسى من الفرح العارم، بالتلاقي والإنسجام الفردي مع آخرين، مجهولين غالباً... وهو اخترع جمهوراً جديدً، غضباً جديداً، وأسماء مجموعات جديدة، كلها طريفة ("ع الشارع"، "بدنا نحاسب"، "حلّو عنا")، شعارات، مطالب،  رسومات، أغان، صيغ سجالية جديدة، من نوع "كلن يعني كلن!"؛ أي الجميع فاسد، ومن كلا الفريقين، يقابلها شعار "لا للتعميم!"، أي بحسب صاحبها، كلهم فاسدون باستثنائي أنا.

ويجب ألا ننسى أيضا بأن الشارع نفسه ليس جديداً على اللبنانيين: عشية الحِراك، لم يكن يمرّ يوم واحد عليهم إلا وترى ثلاث، وأحيانا أربع مجموعات منهم تنزل إلى الشارع، للتظاهر والإعتصام وقطع الطرق، من أجل قضية حياتية، أمنية اقتصادية مهنية بيئية صحية إنسانية ... ولا ننسى ان اعتصامات أهالي الناعمة وجوارها هي التي فجّرت قنبلة النفايات.

من حظوظ الحِراك انه أتى في لحظة اختنقت فيها البلاد، المعتادة على الإنتخابات، من توقفها عنها؛ وفي وقت تعجز فيه الأحزاب الحاكمة عن الإتفاق على أدنى المسائل، إذ ان كل حزب يترصّد الموازين الخارجية التي سوف يترتّب عليها حجم حصته. الإنتخابات، ليس من أجل تجديد السلطة السياسية، التي لا تنزل إليها قبل أن تتفق أحزابها على التقطيع "التوافقي" (المسمى "قانون الانتخابات") المناسب لكل منها، بحسب "ميزانها" الإقليمي؛ بل الإنتخابات من أجل تحريك الدماء في عروق القادة المؤبدين لطوائفهم، فيضطرون، على الأقل، للتفكير في الوسيلة الأنجع لكسب الاصوات؛ فيضحكون على جمهورهم من هنا، يعبدون طريقاً من هناك، يوظفون في الدولة، يقدمون الدعم للزراعة او الصناعة، يعدون بأنهم سوف يشرّعون... أو أي شيء آخر كفيل بتحويل هذه الزعامات الأبدية إلى شيء يمكن احتماله...

إنفجار الحِراك مثل الظواهر الطبيعية التي ما كان ممكناً لها إلا أن تنفجر؛ لذلك ربما اكتنفته العفوية في أولى خطواته. أقصى ما يمكن تصوره على المدى القريب، بعد أن يشد أزْره ويتمكّن، هو أن يلعب دور البرلمان البديل، الذي يراقب عن كثب أعمال منتحلي صفة نواب، ويقترح مطالب ملحة، ومشاريع قوانين، وطرق لتحقيقها، ويتظاهر من أجلها... ليثبت بالسياسة بأن هناك طبقة إجتماعية في لبنان، تناهض طبقته السياسية، تراقبها، تحاسبها، تنقدها، تكشفها... فتستحي هذه الأخيرة، وتتركنا أحياء بدل ان تقتلنا.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها