الخميس 2013/06/20

آخر تحديث: 20:50 (بيروت)

كتاب وجائزة

الخميس 2013/06/20
increase حجم الخط decrease
  مساء الأربعاء 19 الجاري، تسلّمتُ، في لقاء اجتمع له أصدقاء ومهتمّون، "جائزة ميشال زكّور". توّجت الجائزة كتابي الأخير "لبنان: الإصلاح المردود والخراب المنشود" الذي صدر في ربيع السنة الماضية عن دار الساقي في بيروت. والجائزة المرشّحة للاستواء تقليداً سنوياً أنشأتها هذه السنة مؤسسة ميشال زكّور على اسم الصحافي والسياسي الراحل، فكان كتابي أوّل عمل ينالها. وكانت هيئة المحكّمين قد أعلنَت، قبل أشهرٍ، لائحة قصيرة ضمّت ستة عناوين مرشّحة. وستُمنح الجائزة كلّ سنة لعملٍ بحثي موضوعٍ بالعربية أو الفرنسية أو الإنكليزية ومكرّس لموضوع لبناني. 
وأمّا كتابي فيتّصل جذره الفكريّ بمقالة صغيرة نسبياً نشرَتها لي جريدة السفير في 25 أيار من سنة 1987 تحت عنوان "وجه الصيغة وقفاها". تتكئ هذه المقالة على ملاحظتين استعارت أولاهما من كتاب لي أقدم منها عهداً وخلَصت منها إلى الثانية. الملاحظة الأولى أن اعتياد اللبنانيين إعلان المقت لطائفية نظامهم السياسي وإنكار الصفة الطائفية لمواقفهم ولتشكيلات مختلفة لهم أي ما أسمّيه بخفر الطوائف أو الحشمة الطائفية أمرٌ لا يجوز إلحاقه بالرغبة المجرّدة في مجاملة الحداثة وإنكار التعلّق بتقليد يعود إلى عهود بائدة وإنما هو شرطٌ حيوي لتحرير فسحة لا يستغنى عنها وإن تكن محدودة الرقعة ومهدّدة دائماً تظهر فيها الدولة اللبنانية وتزاول وظائفها وهو، في آخر المطاف، ضرورة لوجود هذه الدولة نفسه. معنى هذا أن اللبنانيين حين يجنحون إلى الاستواء طائفيين غير محتشمين، معتدّين، في الاجتماع وفي السياسة، بهويّاتهم الطائفية حصراً وغير مقرّين بدواعٍ تدعوهم إلى النأي عنها، في تناولهم شؤونهم العامّة، وذلك لتكوين مجالٍ وطني لهم، إنما يكونون قد باشروا الجنوح بدولتهم نحو التخلّع والتهاوي وباشروا، بالتالي، التوجّه بجماعاتهم نحو اعتماد العنف في التنازع.
تلك إذن هي الملاحظة الأولى، وعنوانها لزوم لبناني للحشمة في الانتساب إلى المدار الطائفي شرطاً لبقاء الدولة. وأما الملاحظة الثانية فمستقاة من نزوعٍ لبنانيّ معاكس، مكتومٍ عادة إلى هذا الحدّ أو ذاك في حيّز الطائفة. وهو النزوع إلى الشكوى من تفرّق الصفّ الطائفي وإلى إعلان الرغبة في توحيد هذا الصف على غرار ما يراه الداعية أو يتوهمه حاصلاً في طائفة أخرى أو أكثر من طائفة واحدة... وعلى التخصيص، في تلك التي يعُدّها الداعية نفسه مصدر الخطر. ملاحظتي في مواجهة هذه الشكوى من الفُرْقة الطائفية ومن توزّع المواقف في الطائفة الواحدة هي أن تحقق الوحدة السياسية في كلّ من الطوائف إنما هو إعلان نهاية، ولو آجلة، للتجربة الطائفية من أصلها. 
أقول: "تحقّق الوحدة في كلّ من الطوائف" ولكن أعلم أن تحققها في واحدة، لا أكثر، من الطوائف الرئيسة يكفي لزلزلة النظام السياسي القائم وذلك بوضع المؤسسات السياسية للدولة أو السلطات العامّة تحت وطأة ابتزاز لا يطاق. فإن الطائفة الممتعة بالوحدة السياسية المشار إليها تصبح قادرة على تخيير الدولة بين التلبية غير المشروطة لمطالب تعصي على التلبية أو  التحمّل غير المحدود لمسلكيات يتعذّر تحمّلها وبين مغادرة الطائفة الموحّدة بقضّها وقضيضها لسفينة الدولة أي لمؤسسات الحكم بادئ بدء. هذا أمر لا يطيقه النظام الطائفي بمبدئه نفسه. وهو ينتهي إلى عطلٍ في الشرعية قد يشفعه، في جهة الطائفة المتراصّة الصف، إغراء بالجنوح إلى القوّة يزكّيه ظرف التفاوت في الحال بينها وبين شقيقاتها الأخريات. هذا التفاوت نفسه لا بدّ أن ينزع إلى الضمور. فهذا يحتّمه منطق الدفاع عن النفس، من جهة الجماعات الأخرى، وفلّ الحديد بالحديد.
أقول هذا مع علمي أن الرغبة في المحاكاة لا توفّر وحدها الطاقة اللازمة ولا الظروف المواتية لمماثلة الخصم الداخلي. ففي الحالة اللبنانية، يحصُل استشعار دائم للمواجهات الدائرة في المحيط وفي ما هو أبعد و يستمدّ من هذا الخارج المركّب، حين تميل به مصالحه إلى الاستجابة أو إلى المبادرة، جانب صالح بل حاسم من الطاقة اللازمة لمواجهة الندّ أو الخصم الطائفي، دفاعاً أو هجوماً. في كلّ حال، لا تبقى "وَحْدة الصفّ الطائفي"، بمفاعيلها المدمّرة، مدّة طويلة امتيازاً لطائفة واحدة. فلا بدّ من استوائها تحريضاً على النزوع إلى المحاكاة ولو بقيت هذه أسيرة معطيات تتعلّق بأوضاع الجماعة الراغبة فيها، أيّة تكن، وبموقعها بين قوى الداخل والخارج. 
وحين يعلو منسوب الوحدة السياسية في كلّ من الطوائف (مع بقاء التباين قائماً في هذا المضمار بين هذه وتلك منها ومع التعذّر المؤكّد لتحقق الوحدة المشار إليها تحقّـقاً مطلقاً) تزداد أزمة النظام عسراً ومؤسسات السلطة وغيرها من مؤسسات الدولة تهالكاً. وتعظم أيضاً حظوظ الجنوح إلى القوّة في إدارة التنازع الجاري. فهذه الحظوظ لا ينقصها، في الواقع، بل يزيد فيها التوجّه إلى التكافؤ بين قوى الطوائف المعبّأة حين تزكّيه حبكة الظروف. وذاك أن البديل من العنف ههنا لم يكن غير الرضوخ للقوّة وحصاد الخسائر والمخاطر المترتبة على ذواء سلطة الدولة والمنطق الوطني. الخلاصة أن ما قد يُرى كمالاً لتحقق المبدإ الطائفي المؤسس لنظام لبنان الاجتماعي السياسي إنما هو، في حقيقته، افتتاح لتضعضعٍ عميق: لأزمة قصوى قد تدارى بعض مفاعيلها وقد تتمادى في الزمن ولكنها تتوجّه بهذا المبدإ نحو الإفلاس الكلّي إذ تضرب النظام القائم عليه بعطل يبدو عصيّاً على المعالجة والإصلاح.
وما يجب تسجيله، دون الدخول في كيفياته هنا، هو أن الحرب التي خبرَتها بلادنا عِقْداً ونصف عِقْدٍ هي ما توجّه بكلّ من الطوائف، وبنجاح متباين في ما بينها، نحو الاستواء وحدةً سياسية أو ما هو بهذه المثابة. وهي، أي الحرب، ما ضرب "حشمة الطوائف" أيضاً، فأصبحت الطوائف تميل إلى الاستغناء عن كلّ تمويه لطائفية مسالكها في كلّ أمر تقريباً. وهي، أي الحرب أيضاً، ما أنشأ الخلل الذي بلغ فتكه بالمنطق الدستوري أو المؤسسي بعض ذراه اليوم وأخذ يبدو وكأنه يدفع البلاد دفعاً نحو حربٍ جديدة. 
وفي مدى عقدٍ ونصف عقد آخرين تَبِعا الحرب، كانت هيمنة الحاكم السوري على لبنان، بمزاولتها وظيفة التحكيم الداخلي في البلاد، تحجُب عجز المراجع الشرعية المفترضة لها هذه الوظيفة بحكم الدستور. وكانت هذه الهيمنة تتيح ظهور هذا العجز، أحياناً، وتطاول في الحسم لتحمي مسوّغ بقائها. وحين انجلَت الهيمنة مفسحة في المجال لتغيّر متعدّد الوجوه في هندسة المجتمع السياسي التي كانت قد فرضتها على البلاد فرضاً، انكشفت أستار العجز المتهالكة عمّا لا نزال فيه من أزْمة مفتوحة: أصلُها في الطور الذي بلغه النظام الطائفي برمّته وإن تنوّعت مجاليها السياسية واختلفت أطوارها الظرفية.
يُبْرِز هذا الطور، بما ينطوي عليه من مخاطر ومهالك، ضرورةَ الإصلاح. وقد التفت الكتاب إلى هذا الأمر فاقترح عناوين للإصلاح مستوحاةً من كَثَ ب مما أجمله اتّفاق الطائف في باب الإصلاحات وما سمّاه إلغاء الطائفية السياسية. على أن الكتاب يجرؤ على القول أننا نبتعد عن إرادة الإصلاح وإمكانه بمقدار ما تظهر ضرورته. وذاك أن أزمة النظام التي نحن فيها متشكّلة بحيث تزيد في تشقق الشعب وذوائه، بما هو إمكان لذاتٍ مريدة، وتمنع، إلى أجلٍ يتعذّر تعيينه، تشكّل ما يقتضيه إجراء الإصلاح من كتلة شعبية فاعلة، متعدّدة الموارد والمصادر السياسية ولكنها مجمعة على إرادة الإصلاح. تلك هي المحطّة التي أدركناها اليوم: نرى الحاجة إلى الإصلاح ماسّة ولكن نرى ما هو متحصّل لنا من مؤسّسات مسؤولة عن إصلاح نفسها آخذاً في التهاوي.
وإذ أقول إن النظام الطائفي بلغ طوراً جديداً من أطوار مساره أُبْرِزُ ركناً من أركان هذا الكتاب هو اللزوم المثابر للقول إن الطائفية لها تاريخ وإنها، بخلاف الشعور الذي تنشئه هي نفسها أحياناً، ليست شيئاً خالداً ولا هي لبثت، من أيّ وجه من الوجوه، على حالٍ ثابتة عبر تاريخ البلاد الحديث أو المعاصر. وحين أبرزتُ، في نصوص يضم هذا الكتاب بعضها ويرقى بعضها الآخر إلى سنة 2000 ويرقى أوّلها، وقد أشرت إليه، إلى سنة 1987، تباشيرَ هذا الطور الجديد وملامحَ الأزمة التي ينطوي عليها، لم أكن أتنبّأ بشيء. وما أزال أميل إلى البَرَم بمحلّلين لا يرون من الوقائع والحوادث إلا تفرّغها المزعوم لإثبات توقّعاتهم. كانت مهمّتي تقتضي جرأة الإدراك أو الإقدام في القراءة لا صواب التوقّع. ويقتضي حسن الإدراك، فضلاً عن المثابرة وعن بعض المعرفة، دأباً في مناضلة خصم يحاصر عقل اللبناني من كلّ جانب. ذاك هو العصبية، على اختلاف مجاليها والمعاني، وهي ما تتعيّن حماية استقلال العقل من هجماته. وإذا كان ثمّة في هذا الكتاب ما قد يستحقّ جائزة ميشال زكّور، فهو – بقطع النظر عن حظوظ الفلاح والخيبة فيه – هذا الجهد لدحر إغراء العصبية وضغطها ولتحصيل ما أمكن من حصانة للعقل.
بخلاف ذلك، أرى الصورة المكفهرّة التي يرسمها لحالنا هذا الكتاب، وهو يوشك أن يُقْرأ من عنوانه: "الإصلاح المردود والخراب المنشود"، مستحقّة عقوبةً لمؤلّفه لا جائزة. وفي ضوء اللحظة الحاضرة، تستحقّ عقوبةً أيضاً المقالة المسمّاة "أشياعُ السنّة وأسنانُ الشيعة": تستحقّها (وهي المكتوبة سنة 2007)عنواناً ومضموناً. عوض العقوبة، نال الكتاب جائزة يعتزّ بها مؤلّفه ويشكر لمنشئها تشجيعه ولهيئة محكّميها تقديرها. وقد جاء في الكتب أن سبُل الله لا تدرك وأخمّن بدوري أن الله له في العقوبات وفي الجوائز شؤون.
 
     
 
increase حجم الخط decrease