الخميس 2014/09/18

آخر تحديث: 10:51 (بيروت)

سوريون في الأدغال اللبنانية

الخميس 2014/09/18
increase حجم الخط decrease

أبو حسن، ناطور البناية، يعتبر نفسه محظوظاً من بين السوريين. يعمل في لبنان قبل إندلاع الثورة في بلاده، وله شقة في الطابق الأرضي؛ صغيرة صحيح، لكنها تأويه. ترك في الرقة زوجته وأطفاله الثمانية، لأن زوجته مدرسة، وما زالت تقبض راتبها، ولأن الشقة لا يمكن ان تحتوي كل هذه العائلة الكبيرة. بعد الثورة مباشرة، طلب من إبنيه الشابين الإلتحاق به، منعاً لتجنيدهم في جيش بشار، فيما بقيت زوجته وبقية الأولاد هناك. ولكن عندما بدأت الحياة تضيق بهم، بممارسات "داعش"، الحاكم الجديد للرقة، وبالقصف المستجد للبلدة على يد الطيران النظامي، توسلاً من قادته لإشراكهم في الحرب  "العالمية" على الارهاب، هرعت بقية العائلة إلى بيروت طلباً للسلامة، واستقرت في الشقة الضيقة في الطابق الأرضي من البناية. إقامة العائلة كلها في هذا المكان لا يقارن باقامة نازحين آخرين تحت خيمة من بلاستيك، أرضها من تراب. ولكن الشقة ضيقة والأولاد يحتاجون الى الركض واللعب. فتوسعت العائلة بخجل في جانب من كاراج البناية، وصارت الأم تنام على كنبة مهترئة في الخارج، تضم اليها آخر أبنائها، فيما البقية يفترشون هناك وهناك أبسطة لقضاء الليل. في النهار، كنتَ تشاهد آخر العنقود هذا يفرح بسيارة بلاستيكية فقدت دواليبها، يحاول بمساعدة شقيقته أن يسيّرها، وهكذا... حتى ليلة السبت المشؤوم الذي تلى ذبح الجندي عباس ملدج على يد "داعش". في تلك الليلة بالذات، إحتجتُ إلى ابو حسن لفتح باب أشرطة الكهرباء المتدلية من جنبات "ساعاتها"، رُحتُ له، فوجدُت باب الشقة مفتوحاً، والشاي مصبوب في الفناجين، والكنبة التي تنام عليها أم حسن متروكة كما لو نهضت منها لتوها... إلى ما هناك من أوصاف لا تشبه إلا ما يرويه لنا الفلسطينيون عن نكبتهم، يوم تركوا كل شيء في لحظة نكرة، وهربوا إلى أرض الله الواسعة.

انتظرتُ يومين، وعقلي مشغول بأبو حسن وعائلته. ترى؟ ما الذي جعلهم ينسحبون من جلستهم بهذا التسرع؟ أيكونوا تعرضوا لمضايقة؟ إبتزاز؟ تهديد؟  وفي حي لا يوحي أبداً سكانه الراقين بأنهم ممن يمكن أن يتصرفوا كالغوغاء؟ لكنني لا أهدأ. بعد يومين بالضبط، وفي بداية الليل، والكهرباء طبعاً مقطوعة، أروح لشقته، أريد أن اتفقده قبل الصعود الى شقتي. لعلّني أعلم شيئا عن حاله. في الظلام، أناديه "أبو حسن!". ومن الظلام يأتيني صوته المبحوح، "هون! هون! انا هون...!"، وعيونه مضيئة، تشعّ دماً. ماذا حلّ بك يا أبو حسن؟ أين عائلتك؟ لماذا أنت جالس هكذا في العتمة؟ فيروي باقتضاب شديد حكاية أواخر تلك الليلة اللعينة التي أرغمته على حمل كل العائلة إلى الشمال، ليودعها لأخيه الكبير اللاجىء في إحدى قرى عكار، ويعود الى بيروت، مطمئنا عليهم، وغير مبال بنفسه. فهو يريد ان يعيش، وفي عكار لا عمل ولا رزق. ابو حسن، كغيره من السوريين، لاجئون كانوا أو عمال أو ربما أرباب عمل، هرّب عائلته من الأعمال الانتقامية التي انتشرت ليلة السبت الأسود هذا ضد اللاجئين السوريين، أو بالأحرى انطلقت، ولم تهدأ حتى الآن...

واليكم مسار ابو حسن في الهروب، بصفته مساراً نموذجياً: هو في البداية هرب من الحرب الإقتصادية الدائرة ضد مهمشي وفقراء بلاده، فحضر الى لبنان، وعمل في البناء، ومن ثم أصبح ناطوراً في البناية. ومع الثورة، هرّب ابو حسن إبنيه الشابين خوفاً من تجنيدهم في جيش بشار. وعندما اشتد الوضع في الرقة مع هيمنة "داعش"، هرّب بقية عائلته إلى تلك الشقة في بيروت. وبعد تهديدات الغوغاء اللبناني، هرّب أبو حسن عائلته من بيروت إلى عكار. وهو ما زال محظوظاً، قياساً الى ما مرّ به أخوه، مثلاً، ساكن خيمة البلاستيك.

اللاجئون السوريون تعرضوا خلال العامين المنصرمين لشتى انواع المضايقات. والبلديات المنتشرة في القرى، كانت أول المبادرين الى الحد من حرية تنقلهم، وأكثرهم صراحة. والسياسيون العنصريون لم يقصروا في تحميلهم تبعات فشلهم السياسي؛ فيما سماسرة "المساعدات الانسانية" يمصون دمهم. ولكن مع ظهور "داعش"، وخصوصاً بعد معركة عرسال وخطف الجنود اللبنانيين وذبح اثنين منهم، صاروا كلهم "داعش"، وباتوا حلالاً على الزعران ذوي المشارب المختلفة. قوى أمر الواقع التي على الأرض اللبنانية، الأقوى من اسرائيل ومن "الدولة" اللبنانية، لم تتخذ قراراً بردعهم، فيما الاعتداءات على انواعها وكثافتها، مسكوت عنها. فما ينقله الاعلام عن الاعتداءات والتهديدات بالقتل والضرب المبرح والحد من حرية التنقل والتحرش الليلي بتجمعاتهم المتواضعة... و، و...كل ذلك يحصل يومياً، ويتصاعد يومياً، وكأن الساحة اللبنانية التي شرعتها قوى الامر الواقع لأعتى الرياح السورية، بمشاركتها في حربها، قوى الامر الواقع التي استباحت حدودنا وجذبت "داعش" إلينا... غير قادرة على التدخل وإيقاف جمهورها، ولا، طبعاً، جمهور غيرها. والسبب واضح: اية محاولة لتهدئة هذا الجمهور سوف تثير نقاشا أوليا، وربما "برنامجا أخلاقياً"، سوف يرتد على القيادة، وهي مدركة لذلك. فتسكت. سكوتها الآن من الذهب الخالص، وحده ربما ينقذ عرشها، وعرش نظرائها الأضعف، الممدَّد لهم قصراً...

     

increase حجم الخط decrease