الإثنين 2014/07/28

آخر تحديث: 12:05 (بيروت)

بضاعة الذعر الداعشية

الإثنين 2014/07/28
increase حجم الخط decrease

الصور التي يصرّ "داعش" على تصديرها إلينا، مرة أخرى، لا تقصد إعلامنا بأنشطته، أو "سياسته"، إنما بشيء آخر في نفوس القيمين على "سياسته الإعلامية". بالأمس، بعد الصلب والرجم والإعدام، كانت صورة ستة رؤوس مقطوعة، مرصوصة بصف واحد، لجنود موالين للنظام، كان التنظيم قد اشتبك معهم في شمال سوريا، قيل بعدها إنهم كانوا من الأسرى.

تراكم هذه الصور المرعبة، الواحدة بعد الأخرى، ليست بالتأكيد كل ما يجب أن نعرفه عن مناطق سيطرة "داعش"؛ نجهل الكثير عن تركيبته البشرية وأصول قياداته الثانية والثالثة، وعن معاركه مع القوات النظامية والإسلامية والكردية، عن يوميات الناس العائشين في "ربوعه"... الضباب الكثيف يلفّ تفاصيل كثيرة نود أن نعرفها عن "داعش" وملحقاته وخصوماته ومصادر تمويله الخ. لكن ما صرنا نعرفه جيداً إن خلف صور "داعش" نوايا إعلامية واضحة، لا ريب فيها؛ وآيتها زرع الرعب في قلوبنا، على المدى القريب والمتوسط. يريد تصدير أفظع الصور عنه؛ والقيمون عليه يعون ذلك، ليسوا بأغبياء، يشتغلون به بعقل بارد دقيق. لذلك يمسْرح "داعش" كل صوره المرعبة، أو حتى تلك الصور التي تود بث الهيبة الإلهية، كما هو حال تقديمه لـ"خليفتهم" أبو بكر البغدادي إلى "الجمهور" المرئي؛ يضبط الكليشيه والوضعية والإضاءة... ليقدم لنا الرؤوس المقطوعة الأخيرة. فهو لم يلتقطها في لحظة توتر أو فوضى من قلب معركة محتدمة، في مشهد قد لا يكون مفهوما تماماً، أو لا يعطي إنطباعا "مشرّفاً"، أو لا ينقل الأثر الصادم المطلوب. بالعكس: هو لمْلمَ الرؤوس بعد قطعها، ربما "نظّفها" من الغبار، أو مشّط شعر أصحابها، لكي تبدو هويتهم واضحة، وليس مجرّد ضحايا غامضي الملامح. وهم، بعد ذلك، جمعوا ستة رؤوس في أكياس، وحملوها في سيارة على الأرجح ونقلوها إلى "مكان" التصوير، ووضعوها على شيء يشبه الرصيف، وأمروا المصور بتشغيل عدسته. فكانت تلك الصورة التي حمضوها وطبعوا منها العشرات، وربما الآلاف، وبعثوها إلى أنحاء الشبكة الخمس.

يريدنا "داعش" أن نتزلْزل رعباً، لا أن نطمئن كما يفعل السياسيون التقليديون، الذين يخفون وحشيتهم، أو قلة درايتهم، بابتسامات ووعود زاهية بمستقبل من الرخاء لو بقينا على ولاءنا لهم... هذه "السياسة الإعلامية" ليست فاشلة إلا بالمعايير الغربية الديموقراطية، ولكن في ظل تعمّم الإستبداد والفوضى والموت والدمار والإنهيار الإنساني البالغ الذي مُنينا به خلال السنوات الثلاث الاخيرة، فان هذه السياسة ناجحة بغالبية نقاطها.

فالجمهور الذي فهم غرض هذه الصور، وأصيب طبعا بالرعب، الجمهور الواسع هذا يقف مع خوفه أمام واحد من الإحتمالين: إما يخاف، فيذعن، ويقدم الولاء للخليفة حماية لروحه من الشقاء، وهذه ردّة الفعل الإنسانية المفهومة، لا نعرف نسبة الذين يعدون في حسابها، ولكننا نقدر حجمها غير القليل، نظرا للعراء الذي وجد فيه المواطن المشرقي.

إما يخاف فيذعن إذن، أو يخاف وينجذب ويلتحق بالقوات الجهادية، خصوصاً إذا كان هذا القسم من الجمهور شباباً. ليس لأنه بالضرورة  "مظلوم" أو "مهمش" أو يحمل ثأراً، أو أي مظلومية أخرى من تلك السائدة وسط الشباب المعولم وغير المعولم؛ هو الشباب الذي يهتدي بالصورة الشبكية المتوحشة، بقدر ما يهتدي بشرائط اليوتيوب لمشايخ الحقد والدمار. لذلك لا يمكن التكلم عن سياسة إعلامية "فاشلة" عند "داعش". هذا التنظيم يدرك تماما روح العصر، ويعرف كيف يوظف طاقاته "الحية" وكيف يؤطّرها نفسياً و"فكرياً". يدرك إن وجهة التيار العربي العميق مائلة نحو المزيد من الإنغماس في تلك المقتلة الدائرة أمام ناظرَيه.

أما الفئة الثالثة أمثالنا من مستهلكي صور "داعش"، أولئك الذين يصيبهم الرعب، من دون ان يفكروا لحظة بان يكون رعبهم دافعا للخضوع لـ"داعش"، أو الإنجذاب إليه، فليس معروفاً حتى الآن ماذا يفعلون: تارة يهربون، وتارة أخرى يتهرّبون. ذلك انهم لو أرادوا  مواجهة "داعش"، فعليهم، على الأقل، أن يخبئوا وجوههم، خوفاً من انتقامه.

لم يخطىء داعش هدفه، كما يعتقد بعضنا. فقد تجاوز مرحلة "التمكين"، وصار من أولوياته الكشف عن وجهه وحجب وجوه الآخرين، بالحديد والنار.

increase حجم الخط decrease