الثلاثاء 2014/09/30

آخر تحديث: 08:21 (بيروت)

المبطوحون في الأرض

الثلاثاء 2014/09/30
increase حجم الخط decrease

 
قبل يومين من "خميس عرسال الأسود"، كان في وسع الكثيرين رؤية تعزيزات الجيش اللبناني الذاهبة إلى عرسال على أوتوستراد دمشق/ بيروت. عربات مكشوفة، عليها رشاشات متوسطة، مع حوالى عشرة عناصر لكل عربة. أول ما يتبادر إلى الذهن أنهم بدورهم سيكونون مكشوفين هكذا في المعركة ضد مقاتلي داعش أو النصرة. بخلاف التباين في الآراء السياسية حول زجّ الجيش أو توريطه، سيكون من الصعب مشاهدة أولئك الشبان، بزيّهم المرقّط الذي يوحي بمعركة قادمة، من دون التفكر في مصائرهم والإحساس بالتعاطف معهم. اليوتيوب الذي كان قد انتشر حديثاً، ويظهر فيه عناصر من الجيش يعتدون على نازحين سوريين، لن يقفز إلى الذهن؛ صورة الجنود الذاهبين إلى المعركة هي الأصل في مخيالنا عن الجيوش، رغم الأمثلة العديدة التي قدّمتها جيوش المنطقة عن مهمتها في محاربة المدنيين العزّل.

الصور التي أتت من عرسال يوم الخميس كانت مختلفة، فعربات الجيش التي داهمت مخيمات النازحين مصفحة لتوحي لنا بمعركة حقيقية معهم، وتحاول تالياً منع التعاطف معهم، حتى إن ظهرت النسوة والأطفال جالسين مستسلمين أمام المجنزرات القادمة. لن يكون من الخبث بناءً على الصورتين أن يُسأل: هل تكون القسمة بأن تذهب المجنزرات إلى مخيمات النازحين، بينما تذهب العربات المكشوفة إلى القتال في الجرود؟

في الثالث من أيار 2011، وثقت الكاميرات لأول مرة صورة شبان أُجبروا على الانبطاح أرضاً في قرية البيضا القريبة من بانياس، بينما يقوم جنود النظام وشبيحته بالدعس على أجسادهم. أيدي شبان البيضا، تماماً كالصور الواردة من عرسال، كانت مقيدة خلف ظهورهم بقيد بلاستيكي شاهدناه بكثافة للمرة الأولى عندما قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باقتحام مخيم جنين. في الحالات المذكورة جميعاً، كانت حجة القوات المهاجِمة أنها تقوم بحملة على الإرهابيين، وفي الحالات نفسها لم نشهد، بعد انتشار الصور، معاقبة المشرفين على التنكيل بالمعتقلين، ولم تتعهد قيادات الجيوش أو الحكومات المعنية بإجراء تحقيق فوري شفاف ونزيه. وربما لا نغالي إذا قلنا إن أهم سمات الحرب على الإرهاب حتى الآن أنها تعفي أصحابها من التقيّد بالقانون، وتستغلّ أوضاعاً استثنائية لتعزيز هيمنتهم وسطوتهم كفئات فوق القوانين الدولية والمحلية، بل تنال فوق ذلك مشروعيتها حتى من الفئات الواقعة ضحية الإرهاب وضحية الحرب عليه.

لا معلومات دقيقة عن مصائر الشبان الذين بُطحوا أرضاً في البيضا قبل ثلاث سنوات ونصف، إلا أن التخوفات الحالية من مصائر المبطوحين في عرسال تنصّ على ترجيح انضمامهم إلى النصرة أو داعش أو مثيلاتهما من الفصائل المتطرفة. فاليوم أحد أهم المآخذ على سلوك الجيش اللبناني إزاء النازحين أنه، بخلاف حملته المعلنة ضد الإرهاب، يغذّي هذا الأخير من خلال دفع الضحايا إلى التطرف. هنا، ثمة حساب عقلاني تماماً، فالجدل يدور ضمن ميزان الربح والخسارة، ولا بأس ضمناً في ظهور القمع مستهجَناً بسبب نتائجه الوخيمة على الجميع، لا مرفوضاً لأنه ينبغي أن يكون كذلك من حيث المبدأ. السؤال حول مصائر المُنكّل بهم في عرسال يضمر تهميش معاناتهم اليوم، حتى إذا بدا متعاطفاً مع مآلهم كإرهابيين محتملين، إننا نبدو في هذه اللحظة وكأننا أمام درس عملي لصناعة الإرهاب بدل التوقف عند وحشية اللحظة في حد ذاتها.

السوري الذي مُرّغ في التراب في البيضا وعرسال يصبح فأر تجارب أو وسيلة إيضاح، ويؤدي دوره السلبي والمستلب تماماً في إيصال الفكرة إلى خاتمتها. وفي الخاتمة يلتقي مناصرو النظام السوري وأعداؤه. يتلاشى الخلاف الأول حول انتفاضة السوريين وعما إذا كانت ثورة أم حركة إرهابيين متطرفين، ويتراجع الجدل حول دور النظام في صناعة التطرف لصالح النتيجة النهائية التي تتخلص في أن السوريين أصبحوا متطرفين حقاً، وهذا أمر ينبغي علاجه فوراً طالما أن علاج الأنظمة المسببة له غير متاح حالياً. في الحديث عن "قابلية" السوريين للتطرف تضيع حقوقهم، ومنها حقوقهم كنازحين في بلاد اللجوء المجاورة، ليتحولوا إلى مشكلة تنغّص عيش الآخرين وتنقل إليهم عدوى الإرهاب. السوري "الممسوس بالاستبداد والإرهاب معاً" يظهر كـ"كائن ما" أدنى من القانون، فيما تأتي الحرب عليه بحجة الإرهاب كحرب فوق القانون، المسافة بين الحدين يقطعها الكائن السوري على جسده إذ يُنكّل به بداية، ثم يُقضى عليه عندما يثبت قابليته ليكون إرهابياً.

لكن الأهم في ما اجترحه الجيش في عرسال هو تعميمه لاستباحة الجسد السوري؛ الجريمة التي كان مستبعداً تصورها صارت واقعاً، وأخذت بعداً مؤسسياً. بعبارة أوضح، صار السوري مستباحاً لبنانياً، ولم يعد من أثر ملموس لتلك الأصوات التي تنتقد العنصرية إزاء السوري. اليوم، بات يحق لمن يشاء أن يقتدي بالجيش، ولن تكون الانتهاكات القادمة سوى تكرار لا يثير التعاطف بقدر ما يثير الملل. سيصبح السوري مؤرّقاً لأخلاق الآخرين، لأنه يجبرهم على قمعه بما لا يتناسب مع أخلاقهم وطبيعتهم.

قبل نصف قرن تقريباً أنجز فرانز فانون كتابه "المعذَّبون في الأرض"، الكتاب الذي رصد فيه انتهاكات المرحلة الكولونيالية. فرانز فانون هو أيضاً صاحب كتاب "بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء". لعل السوري الآن بات هو الزنجي الوحيد وسط الأقنعة البيضاء، ولعل العنوان المناسب لخمسة عقود من الجيوش الوطنية هو "المبطوحون في الأرض".

increase حجم الخط decrease