الخميس 2014/08/28

آخر تحديث: 00:33 (بيروت)

الأكراد من الثورة إلى السلطة

الخميس 2014/08/28
increase حجم الخط decrease

للشعب الكردي تاريخ عريق تمتد جذوره إلى ألوف السنين.  وقد عاش على امتداد تاريخه الطويل موزعاً بين أربعة بلدان قديمة وحديثة هي إيران وتركيا والعراق وسوريا.  والمعروف عن الشعب الكردي على امتداد تاريخه أنه شعب شجاع ومكافح وعنيد في الدفاع عن حقوقه.  وقد ظلّ تاريخه حافلاً بالثورات التي تعددت وتنوعت قياداتها وبرامجها.  لكن ما ظلّ حياً وثابتاً على الدوام في تلك الثورات والمعارك داخل تلك البلدان وعلى تخومها هو تحقيق دولة كردية أو كيان كردي ما في صيغة حكم ذاتي يؤمن للشعب حقوقه كاملة في التعبير عن شخصيته الثقافية والإثنية أسوة بكل شعوب العالم وأممه.  وكان من أبرز قيادات الشعب الكردي منذ مطالع القرن العشرين وعلى امتداده عائلة البارازاني في العراق وشخصيات كردية مرموقة مثل الشيخ محمود الحفيد الذي شارك في ثورة العشرين ضد سلطة الانتداب البريطاني وقاد انتفاضتين في عام 1927 وفي عام 1928.  وكان للأكراد العراقيين في الكفاح من أجل الحرية ومن أجل حقهم في تقرير مصيرهم على أرض آبائهم وأجدادهم شركاء من القادة الكبار في إيران كان أبرزهم القاضي الشيخ محمد بطل ورئيس أول دولة كردية في التاريخ هي "جمهورية مهاباد" في إيران التي قامت في عام 1946 مدعومة من الجيش السوفياتي الذي كانت قواته تحتل جزءاً من إيران في أعقاب الحرب العالمية الثانية.  وكان الملّا مصطفى البارازاني أحد جنرالات تلك الجمهورية.  وكانت قد قامت في الآن ذاته إلى جانب "جمهورية مهاباد" جمهورية أذربيجان في المنطقة ذاتها بدعم من القوات السوفياتية.  لكن كلاً من الدولتين الإثنيتين الكردية والأذربيجانية سرعان ما أصيبتا بنكسة قضت عليهما بعد انسحاب القوات السوفياتية من تلك المنطقة تنفيذاً لاتفاق يالطا.  إذ جرى قمعهما بوحشية من قبل السلطات الإيرانية.  لكن هزيمة جمهورية مهاباد لم تثنِ الشعب الكردي في كل أماكن وجوده عن الاستمرار في كفاحه من أجل تحقيق ما كانت تعد به الجمهورية المهزومة من حقوق أساسية للشعب الكردي.

استمر كفاح الشعب الكردي على امتداد القرن العشرين من بداياته حتى نهاياته متنقلاً من ثورة إلى ثورة ومن معركة وانتفاضة هنا إلى معركة وانتفاضة هناك.  وكان الخصوم الذين ثاروا ضدهم هم إياهم في البلدان التي يعتبرون بحق أن لهم فيها جذوراً تاريخية قديمة لم تعترف لهم بها قيادات تلك البلدان في كل العهود.  لكن أرض العراق كانت المسرح الأكبر لتلك الثورات والانتفاضات والمعارك السياسية منها والمسلحة.  وكان أبطالها هم البارازانيون مع آخرين من القبائل والعشائر والشيوخ.  واستمر الصراع على أشدّه منذ أربعينات القرن الماضي بقيادة الملّا مصطفى البارازاني حتى وفاته بعد عودته من رحلته الطويلة التي قادته في أعقاب هزيمة جمهورية مهاباد من الاتحاد السوفياتي إلى العراق. 

لكن الحرب الأكثر شراسة التي واجهت الأكراد في العراق تحديداً كانت في ظل حكم البعث بقيادة الطاغية صدام حسين.  واستمرت تلك الحرب بكل حدتها وشراستها في المنطقة الشمالية للعراق المتاخمة للحدود مع إيران وتركيا بقيادة البارازاني حتى وفاته في عام 1979.  واستمرت النضالات والانتفاضات والمعارك في تلك المنطقة بالذات بعد وفاة الملّا مصطفى تحت قيادة ابنه مسعود ومعه جيل جديد من الشخصيات الكردية المرموقة كان في مقدمتهم الشاب الصاعد إلى موقعه القيادي في الثورة جلال الطالباني بعد أن خرج من صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، وأسس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وصار قائده العام.  وكان للشيوعيين العراقيين عرباً وأكراداً دور بارز في كل تلك النضالات.  وقد استخدم الطاغية صدام حسين كل وسائل القتل والتدمير في مواجهة الثورة الكردية استقاها من ترسانة الحركة الفاشية قديمها وحديثها.  وكانت مدينة "حلبجة" ضحية استخدام صدام حسين السلاح الكيماوي الذي ما تزال آثاره تفتك بأهل تلك المدينة الكردية المنكوبة.  لكن كل تدابيره وكل إجرامه لم يثنيا الشعب الكردي عن الاستمرار في كفاحه البطولي وتقديم التضحيات الجسام.

وكان من "حظ" الأكراد العراقيين، إذا صح التعبير، في أعقاب غزو صدام حسين للكويت وما تبعها من حملة أميركية لإخراجه من الكويت مع قوات عربية شاركت فيها سوريا البعث بكتيبة من الجيش، كان من "حظ" الأكراد أن القوات الأميركية فرضت حماية للمنطقة التي كانوا يمارسون منها في شمال العراق نضالهم ضد القوات الحكومية.  وسرعان ما تحوّلت تلك المنطقة إلى ما أصبح يعرف بإقليم كردستان الذي يمارس الأكراد اليوم في ظلّ سلطتهم داخل الإقليم كامل حقوقهم القومية وفق ما نصّ عليه الدستور العراقي الجديد الفدرالي الطابع.

لقد قدمت هذا العرض المكثف للقضية الكردية لكي أفتح أبواب ذاكرتي على تلك العلاقة التي ربطتني بالقضية الكردية وببعض قادتها منذ مطالع خمسينات القرن الماضي.  لم تكن القضية الكردية في الفترة التي أقمت فيها في العراق (1947-1949) بالوضوح الذي عرفتها به لاحقاً. لكن فضولي بعد عودتي من العراق ببضعة أعوام قادني إلى البحث من أجل معرفة أكثر دقة للمكونات التي تتشكل منها بلداننا العربية ومن ضمنها المكونات الإثنية لا سيما الكردية منها على وجه التحديد.  وكان ذلك البحث قد اتخذ طابعاً أكثر جدية عندما أصبحت في عام 1953 عضواً في قيادة اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي في مقره في بودابست.  إذ كان من واجبي من موقعي كمسؤول في الاتحاد عن قسم الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا أن أعرف بالدقة وبالتفاصيل كل ما يتصل بهذه البلدان وبمكوناتها.  وصادف أن تعرّفت في عام 1955 خلال المهرجان العالمي للشباب والطلاب الذي نظمه الاتحاد في مدينة وارصو عاصمة بولونيا إلى الشاب الكردي جلال الطالباني.  كان جلال في ذلك الحين يشارك في المهرجان في أطار الوفد العراقي.  وقد طلب مني يومذاك أن تسمح له قيادة المهرجان بأن يشارك في العرض الإفتتاحي للمهرجان منفرداً وهو يحمل خريطة كردستان التي تمتد من إيران إلى تركيا إلى العراق وصولاً إلى سوريا.  ناقشت الموضوع معه بهدوء، وأنا معجب بشجاعته وبتمسكه بحقوق شعبه، قائلاً له بأن ذلك غير ممكن، أولاً بالنسبة للوفد العراقي وأساساً بالنسبة للاتحاد.  ونصحته بأن لا يقوم بمغامرة يتعرض فيها للمنع وللقمع.  دافع عن موقفه في البداية لكنه عاد فاقتنع.  وبدأت منذ ذلك التاريخ علاقة صداقة حميمة وعميقة بيني وبينه توطدت عندما أصبح رئيساً للجمهورية العراقية.  وتلت تلك العلاقة مع جلال الطالباني في مطالع سبعينات القرن الماضي علاقة صداقة مع مسعود البارازاني ومع الكثير من قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني ومن حزب الاتحاد الوطني ومع العديد من كبار المثقفين الأكراد.  وتكررت زياراتي إلى إقليم كردستان بدءاً من عام 2000 مع وفد من المثقفين العرب نظمه فخري كريم مدير وصاحب مؤسسة المدى.  وخلال تلك الزيارة توطدت علاقتي مع مسعود البارازاني الذي كان قد أصبح رئيساً للإقليم. 

لن أدخل هنا في متاهات البحث حول مستقبل العراق في ظلّ ما تلا الاحتلال الأميركي الغاشم للعراق وما تلا الغزوة "الداعشية" لبعض مناطقه.  لكنني أود أن أختم هذه التداعيات الكردية  بالقول بأن مأساة بلداننا العربية التي تشكلت وفق اتفاق سايكس بيكو المدعم من عصبة الأمم في أعقاب الحرب العالمية الأولى إنما تكمن في أن الذين استلموا مقاليد السلطة فيها جميعها لم يدركوا الأهمية الأساسية للعلاقة الصحيحة بين المكونات المتعددة لبلداننا إثنياً وقومياً وثقافياً وحضارياً ودينياً وطائفياً وسوى ذلك مما يدخل في إطار المكونات الوطنية.  وهو الأمر الذي جعل القومية الأكبر، القومية العربية، في المبدأ وفي الممارسة هي وحدها صاحبة القرار في كل ما يتصل ببلداننا.  وكان أصحاب الامتيازات في السلطة في كل العهود وفي داخل المجتمع هم وحدهم الذين كانوا يتحكمون بالبلاد وبأهلها من جميع المكونات الوطنية الأخرى كأقليات لا دور لها ولا مكان لحقوقها في الدساتير وفي الممارسات.  لذلك فإن من أولى المهمات التي على من سيكونون في المراحل اللاحقة في مواقع السلطة أن يأخذوا هذه المسألة بعين الاعتبار في شكل جدي وقاطع، وأن يعطوا في صيغة من الصيغ لكل هذه المكونات حقوقها وخصوصياتها.  إلا أن ما حققه الأكراد منذ مطالع تسعينات القرن الماضي في العراق قد صار واقعاً ثابتاً لأول مرة في تاريخ الشعب الكردي.  وبرغم ما ساد من تصاريح من هنا ومن هناك حول مفهوم حق تقرير المصير للشعب الكردي فقد ردّ رئيس الإقليم مسعود البارازاني على تلك التصريحات المغرضة في رسالته الأخيرة إلى الشعب العراقي مؤكداً بأن الأكراد إذ يصرّون على حقهم في تقرير المصير بمعنى الحفاظ على المكاسب التي حققوها في الإقليم، فإنهم يؤكدون حرصهم على البقاء مع أشقائهم العراقيين من العرب ومن الإثنيات الأخرى مواطنين يتوحدون في عراق ديمقراطي مستقل تحترم فيه حقوق وخصوصيات كل مكوناته الوطنية. 

 

increase حجم الخط decrease