الأربعاء 2015/07/01

آخر تحديث: 08:29 (بيروت)

سياسة السيسي الداروينية

الأربعاء 2015/07/01
increase حجم الخط decrease

في كلمته خلال إفطار "الأسرة المصرية"، الأربعاء الماضي، قال الرئيس عبدالفتاح السيسي، عن المطالبات بالإفراج عن الشباب المسجونين: "لازم نقبض على ناس، عشان الباقيين يعيشوا". وتأتي مقولة السيسي، بشرطيتها الجازمة، لتذكّرنا بتصريحات للرئيس السابق، محمد مرسي: " ممكن نضحي بشوية، عشان الوطن كله يمشي". تبدو فكرة مرسي عن التضحية "بشوية"، أضيق في نطاق ضحاياها مقارنة بتصريحات السيسي عن القبض على "ناس" غير محددين، لا كمّاً ولا كيفاً، وأكثر اتساعاً في مبرراتها المتحججة باستمرار بـ"الوطن كله" مقارنة بعيش "الباقيين" الأضيق، بحسب السيسي. كذلك، طرحت مقولة مرسي، "التضحية"، بوصفها محض إمكانية، بينما يؤطر السيسي فكرته بوصفها شرطية حتمية، لازمة وواجبة لا فكاك منها. قدّم مرسي تهديداً مبطناً أو علنياً، ربما لا يلزم تنفيذه، بينما يقرّ السيسي واقعاً لسياسات نظامه ويقدم تأطيراً لشروط الحكم ومنطق السلطة بالمطلق، فحياة البعض لا تأتي إلا على حساب البعض الآخر.

في سلسلة محاضرات في "كوليج دي فرانس" العام 1976، وتم جمعها لاحقاً في كتاب "يجب الدفاع عن المجتمع"، يقدم ميشال فوكو، تيارين رئيسين في الفلسفة الغربية لتحليل علاقات السلطة: أولهما، السلطة بوصفها صراعاً أو حرباً، وثانيهما يعتمد العلاقة التعاقدية والتبادل القانوني القائم على الرضا كأساس للسلطة. يرفض فوكو المنطق الثاني، كونه لا- تاريخي، بحسبه، ويمتد نقضه حتى إلى فكرة هوبز عن "حرب الجميع ضد الجميع" البدائية، السابقة للسلطة، كونها ليست حرباً حقيقية، بل تمثيلاً للحرب، وحالة مستمرة من التهديد بها، تفضي بأفراد المجتمع في النهاية إلى مبادلة قدر من حرياتهم لصالح تأسيس السلطة بهدف إقرار السِّلم. يقلب فوكو المقولة المأثورة للجنرال والمنظر العسكري البروسي كلوزفيتز: "الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى"، ليجعلها: "السياسة هي استمرار للحرب بوسائل أخرى"، مؤكداً ميله إلى إعتماد فكرة الصراع كأساس لعلاقات السلطة وعملياتها اليومية.

يرفض فوكو أيضاً صراع الطبقات الماركسي، كونه صراعاً مؤقتاً ينتهي بانتصار البروليتاريا وتأسيس المجتمع الطبقي في النهاية. هكذا، ينفي فوكو في المجمل أي صورة لتراضٍ مجتمعي على نسق "العقد الإجتماعي" لروسو، أو تصور للسلطة بوصفها أداة لتهجين حالة الصراع في المجتمع وتعارض مصالح فئاته أو حتى كمحصلة لحسم للصراع بانتصار أحد أطرافه. فالصراع المستمر، أو كما يقول، الحرب الأهلية الدائمة، هي محور عمل السلطة، وأساسها لا مبررها.

لكن فوكو، مع قناعته بمنطق الصراع كمحور للسياسة، يقدم صورة قاتمة لمدّ الخط إلى نهايته. فالنازية كانت الأكثر إخلاصاً لفكرة محورية الصراع تلك، في صورتها الداروينية الإجتماعية الأكثر عنفاً وتدميراً . فبقاء النوع أو الأمة يستلزم شَرطَي القضاء على الآخر وإفنائه. في النهاية، لم يبتغِ فوكو من محاضراته (مشوشة الأفكار كالعادة) تمجيد الصراع، بل كشف قمعية السلطة، حتى في صيغتها التعاقدية، وتزييفها لطبيعتها الصراعية بإضفاء غلالة القانونية عليها، إضافة إلى التأكيد على التبعات المدمّرة لمنطق الصراع الدارويني لتبرير السلطة.

تعود شَرطيات الداروينية السياسية مع تصريحات السيسي، ومن قبله مرسي ووزير عدله أحمد مكي صاحب مقولة :"البقاء للأقوى"، طارحة تصوراً عن السياسة اليوم في مصر، ومنطق القائمين عليها، كسياسة محورها القوة، وأساسها الغلبة، ومنطق قمعيتها هو شَرطِية البقاء للبعض على حساب التضحية بالبعض الآخر. لا يقودنا هذا التصور، والذي تؤكده ممارسات السلطة عملياً، إلا توقع الأسوأ، وتبديد الطموحات التي يعقدها البعض على تشكل صيغة تعاقدية للنظام الحاكم مع المجتمع أو غالبيته، حال إستقرار الأمور، ولو قليلاً. فمنطق حياة البعض على حساب البعض لا ينتهي غالباً إلا ببقاء السلطة على حساب الجميع. 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها