الأحد 2015/05/24

آخر تحديث: 08:35 (بيروت)

من سيد قطب إلى محمد مرسي

الأحد 2015/05/24
increase حجم الخط decrease

منذ نصف قرن كانت النسخة الأصلية: عبد الناصر يستولي على السلطة عن طريق إنقلاب عسكري، يشتبك مع تنظيم "الإخوان المسلمين" بعدما تحالف معه قبيل الإنقلاب، في صراع واضح على السلطة. فيدخل عشرات من أعضاء "الإخوان" إلى السجون. لكن عبد الناصر ينتبه إلى واحد منهم بالذات، وهو منظرهم الفكري، سيد قطب. المناخ وقتها مؤاتٍ؛ لأنه متجه نحو التقدمية والحداثة والعالمثالثية. فيما شعبية عبد الناصر في ذروتها، نظراً لكاريزماه القومية وإنجازاته التنموية. فيكون قراره باعدام سيد قطب عام 1966، من دون أي احتجاج شعبي، إلا ذاك الصادر عن الكادرات الإخوانية نفسها، والتي يسهل إسكاتها. لماذا سيد قطب بالذات، دون غيره من الوجوه والقيادات الإخوانية؟ لأن قطب أصدر كتابا "معالم في الطريق"، يحسم فيه نظرياً مسألة أحقية السلطة: إذ يقول بأن كل من لا يحكم بغير الشريعة، أي كل من لا يحكم بما يمليه فكر "الإخوان"، فهو كافر جاهلي، يستحق الموت، سواء كان حاكماً أو محكوماً، ؛ ولا يليق بالمؤمن غير الهجرة من ديار الكفر هذه، وتكوين المجتمع الاسلامي من جديد. رمزية إعدام عبد الناصر لسيد قطب ذات مغزى خاص: انها تقول بأن لا تقاسم للحكم بين "الإخوان" و"الضباط الأحرار". وهذا ما تحقق فعلاً طوال السنوات التسع عشرة التي حكم فيها عبد الناصر.

الآن، النسخة المكررة المشوَّهة: عبد الفتاح السيسي يقوم بانقلاب شبه عسكري على "الإخوان"، فيخفي محمد مرسي، الرئيس الإخواني المنتخب ديموقراطياً، عن المسرح لأسابيع، لنعود فنجده في السجن. والإنقلاب تليه إعتداءات دموية ضد المعتصمين "الاخوان" في مسجد "رابعة"، تودي بحياة حوالي ألف ومئتي قتيل، هم طليعة السقطة الأمنية الأولى للإنقلاب. فيصدر القرار باعتبار "الإخوان المسلمين "منظمة إرهابية"، ثم تحركات واعتقالات واشتباكات، وعمليات إرهابية حقيقية في شبه جزيرة سيناء. ولكن مع الفرق ان الإنقلاب لم يحقق حتى الآن أي إنجاز إقتصادي أو تنموي يذكر؛ رغم إصراره على استلهام عبد الناصر، خصوصا في المشهديات والإنشائيات والشكليات. والأهم من كل ذلك ان المناخ الإسلامي صار هو الطاغي الآن، والأحزاب القوية الديناميكية هي اسلامية وحسب. ولكن الدوافع العميقة ما زالت هي هي: رفض العسكري عبد الفتاح السيسي البحث في تقاسم السلطة مع "الإخوان" تماما كما حصل قبل خمسين عاماً، وإصرار "الإخوان"، بعد وصولهم ديموقراطياً، أن يقاسمهم العسكر وغير العسكر هذه السلطة.

الحكم باعدام مرسي ورفاقه، صاحَبه تنفيذ حكم إعدام بستة شباب، بالتهم نفسها، وغضب عسكري من الإستنكار العالمي على الأحكام الجائرة. ولا يغشنا الضباب القانوني الذي يرطن به المدافعون عن حكم الإعدام، إذ ان القضاء ليس مستقلا، لا في مصر، ولا في غيرها من بلدان العرب. وهو على كل حال يكاد لا يفلت من قبضة المال والسلطة في بلدان أكثر تقدماً وديموقراطية من بلداننا.

بين عبد الناصر وعبد الفتاح السيسي، حصلت أمور كثيرة: أنور السادات، خليفة عبد الناصر من العسكر، أخرج "الإخوان" من السجون، بغرض الإستقواء بهم ضد اليساريين. وحسني مبارك تلاعب بهم، وتلاعبوا هم به، في ملحمة من الإبتزاز الأمني، والإحتضان الأيديولوجي، رافقته شروط إشتراكهم في إنتخابات تشريعية فاسدة. سبقت هذه اللعبة، وتخللتها عمليات إرهابية، كان "الإخوان" من أشدّ المتنصّلين منها. وهذا التنصّل لم يقضِ على قانون "الأواني المستطرقة"، الذي كان ينطبق على المستعجلين من بين "الإخوان"، أو الغاضبين من الإبتزاز، أو "القطبيين"، (نسبة إلى سيد قطب) دعاة"حاكمية الله"... فيسمح لهم بالإنتقال من التنظيم "الشرعي" إلى العمليات الإرهابية.

هكذا مرّ نصف القرن السابق: يتأرجح أثناءه "الإخوان" بين الإرهاب القليل والعمل السياسي السلمي، يلوِّن أحدهما بالآخر، من الناحية الفكرية خصوصاً. فبنيت القاعدة الصلبة للإرهاب بقمع "الإخوان" أمنيا وإفلاتهم إعلاميا وفكرياً. مع انه خلال السنوات الخمسين هذه، كان يمكن الخلوص الى درس مفيد: ان قمع "الإخوان" لا يفضي إلا إلى الإرهاب؛ والإرهاب الإسلامي، الأعتى... من سيد قطب الى محمد مرسي، لم يُستوعب الدرس بعد. وحبل غياب الفطنة طويل، قد يمتد على نصف قرن من الآن، تتحول خلالها الأرض إلى يباس، إلى أرض موت عادي، إلى ضحالة ثقافية، طليعتها تلك الأبواق المهلّلة لقرار السيسي بالإستحواذ على كامل السلطة، باسم استقرار وهمي، وناصرية تحتاج بدورها إلى زيارة جديدة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها