الجمعة 2013/01/25

آخر تحديث: 00:22 (بيروت)

الغاب

الجمعة 2013/01/25
increase حجم الخط decrease
من جناية إلى تاليتها، يبدو لبنان وكأنه يزداد قرباً من تصريح الجاني بفعلته وإعلانه نوعاً من الاعتداد بها وإظهاره الاستهتار بأي عقاب يفترض مبدئياً أن يترتب عليها. بل إن الجاني يكاد أن يعلن أنه سيرتكب ما يجد حاجة إليه من جنايات جديدة كلما بدت له الجريمة علاجاً مناسباً لحرج ثابت أو طارئ يواجهه ويوشك أن يفسد عليه هذه أو تلك من خططه ومراميه. ويكاد الجاني أن يعتذر ضاحكاً من ضحاياه: أن يسألهم ما الذي كانوا ينتظرونه منه حين وقفوا في وجهه، في هذا الظرف أو ذاك، وما الذي كان يسعه أن يفعله بهم غير ما فعله؟
منذ اغتيال رفيق الحريري في شتاء 2005، استقرّت هويّة الجاني واضحة في المخيلة العامّة، اللبنانية وغيرها. والجهود التي تبذل لتشتيت الأنظار المركّزة عليه لا تلبث هي نفسها أن تتشتّت في فضاء اللاشيء. فترى الناس يرجعون بعناد ورتابة، بعد كل محاولة لبلبلة الصورة في خواطرهم، إلى حيث كانوا. حتى الذين يقفون في جانب القاتل يبدو إنكارهم مسؤوليته إنكاراً رخواً ويروحون أحياناً يبحثون عن مسوّغات لفعلٍ معلوم الفاعل.
الناس يعلمون من قَتَل والساسة، على التخصيص، يعلمون... ومن هؤلاء من يعلم أنه قد يكون التالي على لائحة الاغتيال. ليس هذا مناخاً معتاداً لمسرح سياسي عادي، وليست هذه سياسة من القبيل الذي يطيب العيش فيه. بل إنها ليست أيضاً بالسياسة التي يطيب الموت فيها. لا يوجد في السياسة اللبنانية سموّ يكفي لرفعها إلى سوية الملحمة ولا ريب أن الضحايا يدهشهم، من جهةٍ ما، أن يكون ما يفعلونه مستحقّاً عقوبة القتل.
هوية الجاني واضحة، إذن. وهي هوية معسكر في الواقع وليست هويّة شخص أو موقع بالذات ويبقى ممكناً أن تحار نسبتها بين حفنة صغيرة من العناوين الشخصية. قد لا يطمئن الناظر إلى تخمينه اسم مرجع بالذات أعطى الأمر بهذا الاغتيال أو ذاك وقد يتردّد في أمر الجهة المنفّذة وفي الكيفيات الحسّية للإعداد والتنفيذ. وقد يكون للتسمية المحدّدة، حين تحصل، وقعٌ شديد على موازين البلاد لأن التسمية تُخرج الفعل من حيرته بين أطراف المعسكر الجاني وتبرز إلى الميدان طرفاً بعينه وتعيّن ما يترتب على جَبْهِه بفعلته من أكلافٍ عملية أو مبدئية. التسمية، بهذا المعنى، ساعة حقيقة. مع ذلك لا تبدو التسمية ولا ما ينتهي إليها من أنشطة التحقيق الجنائي أموراً جسيمة التأثير في تعيين الموقع الأصيل للمسؤولية السياسية عن الجرم.
بالطبع، لا يعتمد القضاء هذا المناخ، على ثقله وتعذّر الإفلات منه، للتوصل إلى حكم. للقضاء منطق آخر وإن كان التحقيق يستهدي، بطبيعة الحال، في صوغ فرضياته بالتحليل السياسي. القضاء يحتاج، في نهاية المطاف، إلى رواية مثبتة ذات أشخاصٍ يُعرفون بأسمائهم وهم مَن قال ومن فعل. ما يبنيه الناس على تواتر الوقائع وتماسك الدوافع شيء مختلف. وهو في وقعه على المصير الوطني وأثره في توجيه دفّة هذا المصير، أهمّ بكثير مما تقضي به أيّة محكمة.
وما يجب قوله، اليوم، ونحن حيث وصلنا من هذا المساق الفاجع، أن اغتيال وسام الحسن، بعد توقيف ميشال سماحة وإماطة اللثام عمّا كان قد أوكل إليه،  أدخلنا في طور جديد من المساق نفسه. فههنا أوشك القاتل أن يعلن عن نفسه وتولّت جوقته بما أسرفت فيه من لغوٍ بائس، زيادةَ الإعلان إعلاناً. وما يعلنه القاتل، في ثنايا هذه الحبكة، أنه حين يُكشف يَقتل من كشفه ويعدّ العدّة، من ثمّ، لمواصلة القتل على المكشوف أو لما هو بمثابته في أدنى تقدير.
فإذا نحن التفتنا مرّة أخرى إلى ساحتنا العامّة لنلاحظ انشطارها المستمرّ، في المضمار الذي نحن بصدده، بين أصحاب القاتل وأصحاب القتيل، ظهر لنا خطر ما نحن فيه. فأن ننقسم، بهذه الصراحة، بين مناهضين للاغتيال ومناصرين، ولو مراوغين، له معناه أننا أصبحنا غير بعيدين أبداً عن حالة الغاب. هذا ومؤسسات دولتنا يظهر عليها الانغماس في هذه المواجهة أو القابلية له. ويترجم ذلك تَوزّعُ ولائها بين ضفتي الجبهة السياسية وتزيده خطراً آفة الفساد المحتمي بمتاريس الفصل الطائفية نفسها. هذا ليس بالباعث على الاطمئنان ولا بالمُشْعِر بالحماية: حماية القانون وأذرعه الضاربة على التخصيص.
ولقد عادت آفة الفساد إلى الظهور مؤخّراً في فضائح مدوّية، بدت وكأنها تقول الشيء نفسه الذي تقوله جرائم الاغتيال: "قتلناه ونقتل غيره وافعلوا ما أنتم فاعلون!"... "نسرق وما الخطب إذا سرقنا؟!"... "نزوّر ونسمّم ونتعدّى ونعتدي وبلّطوا البحر!"... لم نصل بعد إلى هذا، لم نصل إلى الغاب بعد. نحن على أعتابه.


increase حجم الخط decrease