الجمعة 2015/05/29

آخر تحديث: 08:55 (بيروت)

داعش يُذكّر بمصر وتركيا

الجمعة 2015/05/29
increase حجم الخط decrease

أيام قليلة فصلت بين تمدّد "داعش" في سوريا والعراق، بل تمكّنها من تحقيق المدى الاستراتيجي لإسمها كدولة في كلا البلدين، وبين الانفجار الإرهابي الذي هزّ توازناً حسّاساً في قلب الجزيرة العربيّة عبر تفجير التنظيم مسجداً شيعياً في القطيف بالسعودية.

بدا القرب الزمني بين الحدثين مبرراً للنظر إليهما كعمل واحد ينجزه التنظيم، الذي كان البعض يظن أنه دخل في طور الدفاع المحض، بل إن أكثر من مسؤول عسكري أميركي صرّح علناً بأن غارات "التحالف" نقلت ذلك التنظيم إلى تراجع استراتيجي يمهّد لاندحاره، بعد زمن يطول أو يقصر.

ربما تذكَّر البعض أن موجة التمدد الداعشي تجيء بعد سنة تقريباً على اندفاعته الشهيرة التي أبرزته عنصراً أساسيّاً في معادلات المنطقة، عبر سيطرته على الموصل وانهيار حكومة نوري المالكي وإطلاق تهديدات ضد السعوديّة، لم تلبث أن كشفت (بعد زمن ليس طويلاً) عن خلايا سعوديّة أولى لـ"داعش"، الخ...

ومن المستطاع التوصل إلى استنتاج متسرّع، لكنه ليس بالضرورة خطأ كامل، بوجود سياقات متشابهة بين الاندفاعتين. في السياسة، أحياناً يساعد التشبيه على فهم أشياء كثيرة، لكن التمسّك بالتشابه ربما يخفي الفوارق التي تكون بأهمية التشبيه، بل لعلها تفوقه.

وفي التشبيه، يمكن القول أن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، يشبه المالكي في فشله في إيجاد صيغة لمشاركة السُنّة العرب، ما وضعهم مرّة تلو الأخرى في موضع غير الراغب في قتال داعش، إن لم يكن موقع المتعاطف معها بدرجة أو بأخرى. ويذكّر تصريح الجنرال الأميركي مارتن ديمبسي، عن طريقة سقوط الرمادي، و"تواطؤ" القوى الأمنية المحليّة فيها، بما قيل إبّان سقوط الموصل. عند هذه النقطة تظهر الفوارق. إذ أثبتت القوى المذهبيّة الشيعيّة أنها لا تستطيع أن تتجاوز نفسها، ما يعني أنها تكرّس الشرخ الوطني العراقي، وأن قتالها المذهبيّ في تكريت، وتغريب مواطني الأنبار في بلدهم عبر اشتراط حصولهم على كفيل للدخول إلى مناطق معيّنة في العراق بعد فرارهم من وجه داعش.. تلك الأشياء تعمّق الانقسام المذهبي والتوتر الشيعي- السنّي، إضافة إلى المساهمة في وهن الدولة العراقيّة التي يبدو شقّها الكردي شبه مستقل أيضاً.

في بعض التحليلات الغربيّة، يظهر ميل إلى تشبيه ما يعيشه العراق (إضافة إلى سوريا واليمن وليبيا، وربما غيرها)، بحرب الثلاثين عاماً. إذ اختتمت تلك الحرب مرحلة "حروب المئة عام" في أوروبا، لكنها تميّزت بحروب دينيّة متواصلة دارت بين كيانات سياسيّة تتميّز بوجود حكم مركزي يتمتع بسيطرة هشّة على بلاد تتوزعها مُكوّنات مجتمعيّة متصارعة، إضافة إلى قدرة الدول الأكثر تماسكاً (ولو نسبيّاً) على التلاعب بتلك الكيانات الهشّة.

في ذلك المعنى، يكاد العراق يكون نموذجاً تطبيقيّاً. وجاءت الاندفاعة الثانية لداعش في كيان فائق الهشاشة كدولة، لكن أطرافه الكرديّة والشيعيّة تبدو قويّة تماماً، بل يتمتع كل منها بدعم إقليمي ودولي متميز وواضح. وللإنصاف، يجدر التذكير بأن واشنطن كرّرت مراراً ضرورة مشاركة السُنّة العرب، بما في ذلك إلغاء قانون العدالة والمساءلة ووقف التمييز ضد السنّة في مساحات نفوذ الدولة ومناطقها. وانخرطت واشنطن في تجاذب نسبي مع التدخّل الإيراني الإقليمي المنحاز كليّاً إلى المُكوّن الشيعي، مع تمتّعه بعلاقات وطيدة مع الأكراد العراقيين، وهم من السُنّة أيضاً. ولا يعني ذلك سوى شدّة انخراط واشنطن في التلاعب بالمُكوّنات وبالدولة الهشّة، وهو ما برز نموذج عنه بالتلويح بتسليح العرب السنّة والأكراد، من دون المرور بالدولة "المركزيّة" بغداد.

مع كل تلك الهشاشة، ومع تصاعد التوتر في الجوار الجغرافي غير المباشر للعراق وسوريا، خصوصاً أزمة اليمن، بدت الرياح مواتية لاندفاعة داعش في الرمادي، بل إن تلك الاندفاعة تعبير كثيف عنها، سواء طالت مدّة الاندفاعة أو قصرت.

ثمة أمر مماثل في سوريا، لكنه أكثر تعقيداً. في العراق، لا تفاوت بين واشنطن وفرنسا (بل معظم الاتحاد الأوروبي)، بشأن أمور أساسيّة في العمل المباشر ضد داعش والنظام السوري الذي بات مجرّد ظلٍّ باهت. تجدر الملاحظة بأن اندفاعة داعش ترافقت مع تغيير في فرنسا، التي باتت أكثر ميلاً للانخراط في الحرب المباشرة ضد داعش، مع استمرارها بدعم مَن يحاربون النظام السوري. لم يكن الأمر كذلك حتى ما بعد هجمات باريس، مطلع العام الجاري، والتي أبرزت مدى التفاوت بين واشنطن وباريس، وعبّر عنها بوضوح الغياب الأميركي الصارخ عن تظاهرة باريس الشهيرة. هل باتت فرنسا أقرب إلى القول بأن نظام الأسد بات أضعف من أن يستفيد من الضربات ضد داعش؟ لا يغيب عن البال بأن مصير ذلك النظام، خصوصاً رأسه، لم يعد بين يديه، بل بات يتقرّر عبر روسيا وإيران وربما الصين أيضاً. ويفتح ذلك الضعف عينه باباً أوسع لتبادل المصالح بين الأطراف الدوليّة المتنافسة (أميركا، روسيا، الاتحاد الأوروبي، إيران...)، على حساب مَن بات مهتزاً في قلب دمشق. هل يظهر الأمر بجلاء أكثر في مؤتمر باريس المزمع عقده مطلع حزيران المقبل؟

وساهمت تلك الهشاشات أيضاً في اندفاعة داعش صوب تدمر، التي تلت موجته في الرمادي، لكنها أبرزت أيضاً عدم جدوى تغييب الدور التركي، خصوصاً أنه يتصل بالاخوان المسلمين الذين يشكّلون خيطاً في حروب اليمن وسوريا والعراق ومصر وليبيا! ليس مجدياً إنكار قوة العلاقة بين داعش وتركيا أيضاً، ولا إغفال حقيقة المتانة في العلاقات التركية- الإيرانيّة التي تتضمن أيضاً تنافساً شرساً على النفوذ الإقليمي بين أنقرة وطهران. وكلما تزايد الحديث عن المعارضة المعتدلة، وهو أمر تدأب عليه فرنسا، يجدر التذكير أيضاً بأن الأمر يتعلّق كثيراً بالإخوان المسلمين الحاضرين في غير تنظيم إسلامي سوري. إلى حدّ كبير، تستفيد أنقرة من اندفاعة داعش باعتبارها طرفاً إقليميّاً يستطيع التأثير في تلك الاندفاعة، مع الإشارة إلى كثافة ما يربط داعش بتركيا.

في ذلك المعنى، هناك خيوط من أنقرة تمتد عبر اندفاعة داعش في الرمادي وتدمر، لترسم أفق المدى التركي فيهما ولتمد ذلك المدى إلى اليمن أيضاً. لم يستطع "التحالف العربي" توسيع مساحة تقاطعه مع تركيا، لكن الإخوان المسلمين في اليمن هم جزء أساسي من معادلاتها. وفي ذلك المعنى، من المستطاع طرح أسئلة كثيرة عن التشابك بين ما يحصل في العراق وسوريا واليمن، وما يحصل في مصر التي ما زالت في وضع غير مستقر. ولم تستطع مصر الاستمرار في الجهد العسكري في ليبيا، لكنها ما زالت معرّضة لإملاءاته المفتوحة على آفاق مجهولة. وما زال الوضع في سيناء مثار قلق متنوّع الأشكال، إضافة إلى ارتباطه باستمرار العنف المسلح في الداخل المصري. وإذ تفتح مصر الباب على خريطة شمال أفريقيا العربي، والوضع في أفريقيا المتّصل بأحوال العالم العربي، تكون للكلام محطات أخرى...

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها