الثلاثاء 2015/09/01

آخر تحديث: 22:51 (بيروت)

روسيا التي ذهبت بعيدا

الثلاثاء 2015/09/01
increase حجم الخط decrease

لم تنجح الحركة الروسية، السياسية والعسكرية، النشطة في إخفاء عوامل الضعف التي تعانيها في ضوء العزلة السياسية والانهيار الاقتصادي الناجم عن اجتماع عاملي العقوبات الغربية وتراجع أسعار النفط والغاز، ليس تراجعا فقط بل ووفرة اكتشافات ما يعني استمرار التراجع لفترات طويلة.

اعتمدت روسيا في ظل رئاسة بوتين الثالثة سياسة تصعيدية إن في دول الجوار القريب أو في أرجاء أخرى من العالم، وتبنت موقفا استراتيجيا أساسه استعادة نفوذها أيام الاتحاد السوفياتي، فرغم انخراطها في منظمة شنغهاي ومجموعة دول البريكس إلا أن موقفها الحقيقي هو استعادة موقعها في نظام ثنائي القطبية إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، فالعمل على محاربة النفوذ الأمريكي وعرقلة خطط واشنطن وبرامجها مدخلا لإقناعها بالقبول بهذا المطلب/الخيار، والاعتراف بها كلاعب ومحاور دولي، وعقد اتفاقات ثنائية لمعالجة الأزمات الإقليمية والدولية. وقد انعكس ذلك في تحركاتها العسكرية والسياسية فقد اندفعت إلى التصعيد السياسي والعسكري فعملت على تعزيز وجودها العسكري في الساحة السوفييتية السابقة، من خلال قواعد عسكرية في طاجيكستان وقرغيزيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وأرمينيا، ومن خلال تقوية منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم حالياً ست دول، هي روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان وأرمينيا، وتبنت عقيدة عسكرية قائمة على تعزيز الدفاعات الصاروخية، وتطوير المكونات القادرة على حمل رؤوس نووية(أنـــظمة الصواريخ غواصات نووية قاذفات إستراتيجية) ردا على نشر الدرع الصاروخي الأمريكي في أوروبا، ناهيك عن تحديث الأسلحة التقليدية ، وتم تشكيل قيادة عملياتية في البحر الأبيض المتوسط، حيث ترابط حالياً مجموعة سفن تابعة للأسطول الحربي الروسي بشكل دائم، بالإضافة إلى إنشاء شبكة قواعد عسكرية في منطقة القطب الشمالي، وجهت رسالة إلى الأمم المتحدة تطالب فيها بتسجيل مساحة مليون كيلو متر مربع من ارض القطب الشمالي كأرض روسية، ونشر قوات الدفاع الجوي ـ الفضائي الروسية في أرخبيل "نوفايا زيملا"، وقيام ألوية التدخل السريع وسفن الأسطول الحربي بالانتشار على طول طريق الشمال البحري. هذا مع الإكثار في استعراض العضلات وتبني تكتيك حافة الهاوية بتحليق طائراتها فوق دول أوروبية وتنشيط أسطولها في المحيط الأطلسي، وتلويحها باحتمال انفجار حرب عالمية.

ترافق هذا مع تحرك سياسي عبر تشكيل اتحاد جمركي، يضم دول الاتحاد السوفييتي السابق تحت اسم الاتحاد الأوراسي، إطارا موازيا ومنافسا للاتحاد الأوروبي، وتطوير دورها في منظمة شنغهاي والانخراط في مجموعة دول البريكس( الصين والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل)، والاعتراض على تمدد الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو نحو حدودها الغربية واعتراضها على دخول جورجيا وأوكرانيا في الاتحاد والحلف ودعم الناطقين بالروسية في دول الجوار، وخاصة دول البلطيق، والضغط على بولندا والمجر وبلغاريا، كما تبنت مواقف مضادة للتوجهات الغربية، الأمريكية بخاصة، في سوريا ونسقت مع الصين وإيران لدعم النظام السوري وحمايته سياسيا عبر استخدام الفيتو أربع مرات ومده بالأسلحة والمال والخبراء العسكريين والفنيين، واستغلت العقوبات الغربية على إيران وعززت علاقاتها التجارية والعسكرية معها، واستثمرت حالة الفتور السائدة بين الولايات المتحدة وعدد من حلفائها، دول الخليج العربية على خلفية الاتفاق النووي الإيراني، ومصر على خلفية تحفظها على القمع السياسي والإفراط في استخدام العنف ضد الإخوان المسلمين وتسييس القضاء، فعقدت معهم صفقات تجارية وتسليحية واستثمارية، وعقودا لبناء مفاعلات نووية مدنية، كل هذا على أمل إجبار واشنطن على التعاطي معها كالقوة العظمى الثانية والعودة بالعلاقات الدولية إلى نظام ثنائي القطبية.

لكن وعلى الرغم من الحركة النشط والسياسة الصدامية والعدوانية فليس أمام روسيا فرصة تحقيق حلمها بالعودة إلى النظام ثنائي القطبية لاعتبارات بنيوية وتقنية فاقتصادها أسير كعب آخيل، فاغلب موارد الدولة يأتي من مصادر غير إنتاجية رأسمالية، مصادر احفورية: النفط والغاز، وأسعارها خاضعة لتقلبات العرض والطلب، وقد انهارت بفعل الفائض الجديد الذي دخل السوق، وصناعتها تعاني من تدني تقني، وسياستها الصدامية تقود إلى سباق تسلح مع الولايات المتحدة(زادت ميزانية الأسلحة والمعدات العسكرية الحديثة بنسبة 17%، ومن المقرر أن ترتفع هذه النسبة في 2015 إلى30% وفي 2020 من 70- 100%، وهي قابلة للزيادة إذا تطورت المواجهة إلى سباق تسلح وحرب باردة)، مخصصات مالية ضخمة استنزفت موارد الدولة وحدّت من قدراتها على الإنفاق في مجالات تنموية وخدمية، خاصة مع استمرار العقوبات الغربية واحتمال فرض المزيد بالتوازي مع تطورات الوضع في أوكرانيا، وانهيار أسعار النفط وهروب رؤوس الأموال الخاصة إلى الخارج واضطرار الدولة لدعم الشركات التي أوشكت على الانهيار بسبب المقاطعة الغربية وسحب استثمارات الشركات الغربية(87 شركة صفت أعمالها أو خفضتها) وتراجع النمو إلى ما دون الصفر. وقد اضطرها تفاقم أزمتها الاقتصادية، بعد تراجع أسعار النفط إلى النصف وانهيار سعر الروبل وتضخم حجم الدين الداخلي والخارجي(الاحتياطي الروسي 414 مليار دولار، في حين أن الدين الخارجي 700 مليار، وديون الشركات الروسية 500 مليار دولار، خُمسها يجب أن يسدد عام 2015)، إلى إبرام عقود مقايضة مع إيران: نفط إيراني مقابل مواد غذائية، والى عقود غير مربحة كالعقد مع الصين لتزويدها بغاز لمدة ثلاثين سنة بقيمة تقدر بـ 400 مليار دولار بأسعار مخفضة مع تحملها كلفة تمديد الخط من سيبيريا إلى الأراضي الصينية بكلفة 55 مليار دولار.

اللافت أن واشنطن ليست مستاءة من التحرك الروسي ومن اتساع علاقاتها مع دول حليفة لها لأن في ذلك خدمة لإستراتيجيتها الجديدة بالتوجه شرقا لتطويق الصين والحد من تغوّلها على دول الجوار الحليفة للولايات المتحدة، بل يمكن القول إنها مرتاحة له لأنه يمنح روسيا حصانة ضد الوقوع في حضن الصين التي تسعى واشنطن منذ بعض الوقت لاحتواء تمددها العسكري وتقييد صعودها الاقتصادي والحد من هيمنتها على دول شرق آسيا بشكل خاص، خاصة وهي تلمس عدم الارتياح الروسي لصعود الصين وتطورها الاقتصادي والعسكرية وتحركها لأخذ موقع سياسي معادل لمكانتها الاقتصادية وقد عبرت عن هذا الاستياء بموقفها المتحفظ من خطط الصين الاستثمارية في البنى التحتية في دول في آسيا الوسطى تقع على طريق الحرير الجديد وتتجنب، في الوقت نفسه، الأراضي الروسية مما يسمح للصين بالسيطرة والهيمنة في مناطق نفوذها التقليدي ويهددها بالتهميش، خاصة وإنها لا تستطيع منافسة الصين في تحركها في الإقليم بسبب حجم الأموال المطلوبة لذلك.

يبدو حال روسيا بوتين كحال بطل رواية الشيخ والبحر للروائي الأمريكي ارنست همنغواي ففي محاورة في داخل بطل الرواية(الشيخ) الذي فشل في حماية سمكة أبو سيف عملاقة، اصطادها وربطها إلى المركب، من مهاجمة اسماك القرش لها وأكل معظم لحمها، يسأل نفسه: من الذي هزمك؟. ويجيب: لا أحد أنا الذي ذهب بعيدا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب