الأربعاء 2014/11/12

آخر تحديث: 10:44 (بيروت)

.. واستسلم صديقي البراغماتي

الأربعاء 2014/11/12
increase حجم الخط decrease

في زاوية بمقهى "التكعيبة"، الذي لا يبعد كثيراً عن ميدان التحرير، جلس صديقي الموسيقي المستقل ومعه مخرج مسرحي أعرفه جيداً، حول الطاولة المعدنية الصغيرة التي بالكاد تتسع لفناجين البنّ الرخيص، وحولهما شباب أصغر سناً منعني غيابي الطويل عن القاهرة من التعرف عليهم من قرب، وهم منهمكون في مناقشة تفاصيل الفاعلية المقبلة من  "الفن ميدان": البرنامج، والتصريح الأمني، والمعدات، والتمويل... حينها، أي بعد شهور معدودة من سقوط مبارك، بدا "الفن ميدان" خطوة أولى طموحة لتحرير الفن من حصار القاعات المغلقة وعزلته النخبوية، ونقله إلى الميادين التي كانت تموج وقتها بالحراك الثوري. فالفاعلية المجانية، التي كانت تنظّم مرة في الشهر في أحد ميادين المدن المصرية، بمجهود تطوعي من "إئتلاف الثقافة المستقلة"، وبتمويل يعتمد على تبرعات أعضائها وأفراد آخرين معنيين بالشأن العام، نجحت وقتها في فتح ثغرة في جسد حصار طويل ومحكم، كانت قد فرضته الدولة المصرية لعقود حول الفنانين والمثقفين، إذ روّضتهم الدولة داخل حظائر مؤسساتها المتداعية من جانب، وحرّمت عليهم الفضاء العام بالقيود الأمنية من جانب آخر.

في زياراتي التالية والمتباعدة للقاهرة، خلال العامين التاليين، حالفني الحظ بحضور فاعليات "الفن ميدان" أكثر من مرة، في ميدان عابدين، لأشهد برنامجاً تتنوع فقراته بين العروض الغنائية، وإلقاء الشعر، ومعارض الفنون التشكيلية على الأرصفة، وتوقيع كتّاب لرواياتهم عند زوايا الشارع، وحتى عروض السيرك.. يقف المؤدّون ربما للمرة الأولي أمام جمهور ليس من خاصتهم، وعلى مرأى من أرتال الدبابات التي كانت حتى وقت قريب تعسكر داخل قصر عابدين وحوله. في المرة الأخيرة، جلست على الرصيف، منتظراً صديقى حتي ينتهي من اجتماع التحضير النهائي للفاعلية التي تقررت إقامتها في المساء التالي. لكن توتراً بادياً على جماعته، على الرصيف المقابل، تحت أحد أعمدة الإضاءة  في ميدان عابدين، كان كفيلاً بتمديد انتظاري لساعات. مكالمات هاتفية طويلة، ونقاشات حادة طوال الليل، انتهت بحل الأزمة. فرغم الزيارة المقررة للرئيس المصري حينها، محمد مرسي، إلى قصر عابدين في اليوم التالي، أي في الموعد نفسه للفاعلية، نجح اجتماع الرصيف في الحصول على تصريح بإقامة عروضه، بعد تهديدات  بتحويل الفاعلية إلى تظاهرة.. إن منعت لأسباب أمنية تتعلق بالزيارة الرئاسية.

نهاية الشهر الماضي، أعلن تعليق أنشطة "الفن ميدان" لأجل غير مسمّى، وللمرة الأولى منذ سنوات ثلاث، بسبب تعنّت الجهات الأمنية في منح الترخيص. ولم تكد تمرّ أسابيع معدودة حتى أعلنت مؤسسة "المورد الثقافي"، التي يعمل فيها صديقى نفسه، إغلاق مقرها بالقاهرة، نتيجة المناخ والبيئة العدائية المتصاعدة تجاه مؤسسات المجتمع المدني. لم يُحسم  بعد مصير الأنشطة والبرامج المصرية التي تمولها وتشرف عليها المؤسسة، والتي أسستها مجموعة من الفنانين والمثقفين العرب قبل عشرة أعوام، وكانت تتنوع بين برامج منح للفنانين المستقلين، ومدرسة للسيرك والموسيقى في الدرب الأحمر، ومشروع طموح لتطويرالإدارة الثقافية في المنطقة العربية، ومهرجانات وورش فنية وثقافية عربية، وقوافل ثقافية تطوعية للمناطق المحرومة في مصر ولمخيمات اللاجئين خارجها.

ويبدو انتقال المؤسسة من القاهرة إلى تونس أو بيروت مفهوماً، في ظل التهديدات التي تمثلها ترسانة القوانين المستحدثة في مصر، والتي يمكن في ضوء صياغتها المطاطة، محاكمة القائمين على إدارة المؤسسة والمستفيدين من أنشطتها بتُهم تتعلق بالتمويل الأجنبي، والذي يعتمد عليه معظم برامجها.. وتصل عقوبتها للإعدام! وفي حين لا يوجد ما يضطر "المورد الثقافي" للعمل في القاهرة في ظل تلك التهديدات، يتعرض المشهد الثقافي المصري لخسارة مضاعفة. أولاً، خسارة الفضاء العام الذي فتحته الثورة عنوة وصودر بالكامل مؤخراً. وثانياً، تجفيف مصادر التمويل الشحيحة أساساً، وتقليل فرص تقديم المنتج الثقافي حتى داخل الدوائر النخبوية، التي كانت قد انتعشت قليلاً خلال العقد الأخير بفضل تسامح نظام مبارك النسبي مع تمويل المؤسسات الدولية والأجنبية لها، إضافة إلى تراجع إمكانية الاحتكاك بالدوائر الثقافية في الخارج وبدول الربيع العربي خصوصاً، وهي روابط تعمقت خلال السنوات الأخيرة بفضل سلسلة من الأنشطة الدورية تجمع مثقفي وفناني دوله.

بينما يحكم النظام المصري قبضته على النشاط السياسي، والإعلام، والجامعات، والأنشطة الإقتصادية والإنتاجية، ومنظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الدينية... تعيد الدولة المصرية استيلاءها على الساحة الثقافية والفنية، بل وتجرفها بالكامل، مجرِّدةً المجتمع من سلاحه الأخير ضد التطرف والإرهاب الذي تدّعي محاربته، محوِّلةً القاهرة إلى ثقب أسود ضخم، يبتلع آخر الأضواء المرتعشة والخافتة للمدينة البائسة، واحداً تلو الآخر، في هدوء واستسلام مثالي يليق بها.

في محادثتي الأخيرة مع الصديق الذي انهكته ثلاثة أعوام من المآسي الشخصية والجماعية، وهدّه لهاث لا يكلّ بين أنشطة إئتلاف الثقافة المستقلة والفن ميدان، وبرامج "المورد الثقافي" وقوافله، والوقفات الاحتجاجية لإطلاق سراح الرفاق المعتقلين وتأبين بعضهم... أخبرني في براغماتية غير معتادة بأن الاستسلام غير المشروط هو الخيار الوحيد المتاح، وإن كان غير آمن في النهاية. ربما سينتقل إلى تونس أو بيروت مع "المورد"، أو يعود للبحث عن عمل في مجال الترجمة – مهنته الأولى. وربما لا. لكن الشيء الوحيد المؤكد أنه يحتاج للراحة، ولو إلى حين. فالقاهرة لم تعد سوى مدينة جديرة بالتأمل في مصائرها المقابلة بحكمة تليق بالمتعبين. أجاب الصديق، المعروف بعناده، على أسئلة رسالتي الأخيرة له، بجملة مقتضبة: "المستقبل بقى في إيد ربنا".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها