الثلاثاء 2018/04/03

آخر تحديث: 08:04 (بيروت)

ترامب ينسحب أو لا ينسحب من سوريا؟

الثلاثاء 2018/04/03
ترامب ينسحب أو لا ينسحب من سوريا؟
increase حجم الخط decrease

خلافاً لإعلان الرئيس الأمريكي عزمه على انسحاب وشيك من سوريا؛ أعلنت وكالة أنباء الأناضول وصول تعزيزات عسكرية أمريكية إلى مدينة منبج التي تهدد أنقرة باقتحامها بعد عفرين، ما يعني أيضاً أن التفاهم الذي تحدثت عنه أنقرة بينها وبين وزير الخارجية المُقال تيلرسون حول المدينة لم يعد قائماً. وإذا اتبعنا فرضية أخرى فستكون مواجهة النوايا التركية في منبج نموذجاً لما تريده إدارة ترامب للمناطق التي ستتخلى عنها، أي أنها لن تسلمها لحليفها في الناتو وإنما ستفضّل عليه القوى الأخرى الموجودة في الميدان بقيادة موسكو، بما أن الافتراض الأساسي ينص على تحفز الجميع للانقضاض على الميليشيات الكردية بعد رفع الغطاء الأمريكي عنها.

بالتأكيد من المخاطرة دائماً الخوض في تأويل نوايا ترامب، ولا يُستبعد أن يكون مزهواً بوقع مفاجأته الجديدة والاضطراب الذي أحدثته في صفوف الحلفاء والخصوم. يُلاحظ أيضاً أن ترامب أطلق تصريحه أثناء وجود فراغ في وزارة الخارجية فالوزير المقال تيلرسون تنتهي ولايته نظرياً في نهاية شهر آذار، بينما تبدأ ولاية خلفه بولتون في بداية شهر نيسان، ومن المعلوم أن تيلرسون كان قد أعلن سياسة مختلفة كلياً عن النوايا المستجدة لرئيسه، مثلما من المعلوم أن الوزير الجديد بولتون يُحسب على الصقور مقارنة بخلفه.

لكن، وسط الفوضى في إدارة ترامب، يمكن الاهتداء بما هو أقرب إلى ولع الرئيس نفسه. يمكن لنا تخيّل تصريح لاحق لترامب، يزهو فيه بنفسه ويعلن أن تصريحه حول الانسحاب من سوريا قد أتى بالعائد الذي يرجوه، وعلى غرار سوابق أخرى يكون هذا العائد اقتصادياً، لا استراتيجياً كما يليق بدولة عظمى. فترامب أشار، كمن يعلن عن استدراج عروض أسعار، إلى أن كلفة الوجود الأمريكي في سوريا بلغت سبعة مليارات دولار، وأوقف فوراً صرف مبلغ مئتي مليون دولار مخصصة لمناطق الوجود الأمريكي كان قد علم به للتو من الصحافة. بعبارة أخرى؛ ليس مستغرباً على الإطلاق أن يكون تصريح ترامب استدراجاً لمن يتشبثون ببقاء القوات الأمريكية، وإعلامهم بأن عليهم دفع الثمن وجعل مردود بقائها رابحاً اقتصادياً.

إذا صحّ ذلك فالعرض يستهدف دولاً خليجية معنية بالصراع مع طهران، وستكون خاسرة حتماً في حال تخلى ترامب عن مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا وعن قطع الممر البري الممتد من طهران إلى جنوب لبنان. يُذكر في هذا السياق انتهاء التأثير الخليجي في الملف السوري، وتُذكر أيضاً السياسات الخليجية الخاطئة التي راهنت على استمالة بوتين بصفقات اقتصادية من أجل التأثير في تحالفه مع طهران، وأبلغ دلالة على نتائج تلك الأخطاء إطاحة موسكو مفاوضات جنيف السورية التي كانت تستند في جانب منها إلى تفاهمات مع الرياض، والإبقاء على درجة تنسيق عالية مع القوى الإقليمية الأخرى في أنقرة وطهران وتل أبيب.

من جهة إسرائيل لم يحدث، ولن يحدث، أن تموّل الوجود العسكري الأمريكي، حتى إذا أتى لصالحها، فتل أبيب تملك الكثير من أوراق الضغط في المجمع السياسي الأمريكي، ولن تتوانى عن استخدامها. الهدية الرمزية الكبرى التي قدّمها ترامب، بقراره نقل السفارة إلى القدس، لن تعفيه من متطلبات إسرائيلية أخرى تخص الأمن، وهذه باتت ترتكز مؤخراً على خطر تعزيز النفوذ الإيراني في سوريا. لكن من جهة أخرى تملك إسرائيل، في أسوأ الظروف، قدرات ذاتية كافية للدفاع عن مصالحها بخلاف أنظمة الخليج، وبما يفوق المنافسَيْن الإقليميين الآخرين إيران وتركيا.

نظرياً ينبغي أن يصب الانسحاب الأمريكي، إذا أخذنا تصريحات ترامب على محمل الجد، في حساب موسكو، الأمر الذي ينبغي أن يشجعها على دفع ثمن ما لقاءه. لكن موسكو مستنكفة أصلاً عن دفع الثمن المطلوب، وهو فك الارتباط مع طهران، وما رفضته عندما كانت الأوضاع الميدانية أسوأ لن تقبله وقد استطاعت تعديلها لصالحها. ثم إن فرضية ترك روسيا لتغرق في المستنقع السوري لم تثبت صحتها حتى الآن، لأنها استفادت بالمعنى الاستراتيجي من خلال وجودها المباشر في المنطقة، وإذا بدأت باستمالة أنقرة إلى حد غير متوقع فالانكفاء الأمريكي سيتكفل بجلب المزيد من الأصدقاء في المنطقة بعد خيبتهم من الحليف الأمريكي السابق. وعلى الصعيد الاقتصادي تتباهى موسكو بأنها أنفقت على عملياتها العسكرية في سوريا مبلغاً ضئيلاً هو من ضمن موازنة تجاربها على الأسلحة الجديدة، وفي المقابل حصدت صفقات ضخمة لبيع السلاح في المنطقة، وعوّضت بعض الضرر الذي ألحقته بها العقوبات الغربية جراء الملف الأوكراني.

وإذا أخذنا قرار ترامب على محمل آخر غير استدراج عروض الصفقات فهو قد يكون أكبر هدية يتلقاها بوتين من ترامب بعد طول انتظار، أو ربما بعد جفاء أُجبر عليه الأخير بسبب ملف التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية. الانسحاب الأمريكي المجاني لا يرتبط فقط بقضايا جزئية لا أهمية لها لدى الرأي العام، مثل مستقبل سوريا أو بقاء بشار، أو حتى تكتيكات مواجهة إيران. إنه في المؤدى الأعمق انسحاب أمريكي من المنطقة، يعزز من سياسة الانكفاء التي بدأتها إدارة أوباما، ويترك المنطقة في حالة فراغ ستتولى القوى المتأهبة ملؤها، ولن يتوقف ذلك عند الفراغ المباشر وإنما من المتوقع أن يقضم لاحقاً أماكن نفوذ أمريكي تقليدي. فضلاً عن سوريا ستفقد واشنطن العراق نهائياً، وستتعزز خيارات تركيا في التوجه شرقاً على حساب تحالفاتها الغربية القديمة، بينما ستفيق زعامات خليجية على واقع أنها عقدت صفقات ضخمة جداً مع إدارة ترامب لقاء وعود كاذبة.

تحوّلٌ على هذا القدر من الأهمية قد يعني أفول العصر الأمريكي، وبقرار ذاتي أولاً؛ هذه نهاية قد تليق باختيار ترامب رئيساً إلا أنها لا تليق بالمقدرات الأمريكية عموماً، ومنها على نحو خاص وجود مؤسسات أمن قومي قادرة وقت اللزوم على كبح المزاج الرئاسي. ينسحب ترامب من سوريا أو لا ينسحب، أن يكون قراره ناجماً عن تفكير المقاول أو عن مجرد رعونة شخصية؛ هي سابقة في كل الأحوال أن يعلن رئيس أمريكي قراراً على هذا المستوى، وأن يتلقاه العالم أسوة بوزارة خارجيته التي أنكرت علمها بوجود مثل هذا التوجه من قبل. ذلك يدل على أننا لا ننتظر كارثة، بل نحن نعيشها الآن.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها