الثلاثاء 2018/04/24

آخر تحديث: 00:05 (بيروت)

الفائض المصري وكلفته

الثلاثاء 2018/04/24
الفائض المصري وكلفته
حصاد القمح في الفيوم (غيتي)
increase حجم الخط decrease

الموازنة المصرية التي كانت شبه مهددة بالانهيار قبل أعوام قليلة، حققت فائضاً أولياً بنسبة 0.2% في النصف الأول من العام المالي الجاري، وبذلك يبدو أن الطموح الحكومي للوصول لفائض نسبته 0.3% بنهاية العام المالي، أي بنهاية شهر يونيو، سهل التحقق بل وربما يمكن تجاوزه. وبالرغم من أن نسبة الفائض تبدو متواضعة جداً وهامشية، لكن لا يجب إهمال قيمتها الرمزية، خصوصاً أن وزارة المالية كانت قد أعلنت في بيان لها، قبل أسبوعين، عن أن توقعاتها للفائض الأولى للعام المالي المقبل، قد تصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي. ومع أن هذا الرقم يظل رمزيا بدوره لا أكثر، لكنه يعني طموحاً حكومياً لمضاعفه الفائض سبع مرات في عام واحد فقط.

يكشف بيان الوزارة عن ثلاثة محاور، لتحقيق هذا الفائض، والأهم منطق الحكومة في رسم أولوياتها، وفهمها لدور الدولة إجمالاً. فمع أن التضخم الذي تهدف الحكومة في العام المقبل لخفضه إلى نسبة 10% ربما يظل أعلى من هذا، فإن مخصصات المنح والمزايا في الموازنة، والتي تضم معظم بنود الدعم الاجتماعي، ستظل من دون تغيير يذكر، بزيادة من 331 إلى 332 مليار جنيه مصري. أي أن قيمة الدعم ستنخفض في الحقيقة بنسبة 10% على الأقل، وستنخفض مخصصات دعم الكهرباء بنسبة 46% ودعم المواد البترولية بنسبة 26% (هذا من دون احتساب نسبة التضخم). أما دعم السلع التموينية فسينخفض بنسبة 5% على الأقل إذ تم أخذ التضخم في الاعتبار.

ولا تكتفى الحكومة بخفض بنود الدعم. فوزارة المالية في بيانها أعلنت عن وسيلتين لزيادة مواردها. فالدولة تتوقع أن تزيد مداخيلها الضريبية بنسبة 23%، أي الربع تقريباً في عام واحد فقط، من 624 إلى 770 مليار جنيه مصري. ويواكب انسحاب الدولة تدريجياً من دورها الاجتماعي، وفرض أعباء ضريبية إضافية على مواردها، استهدافها لتوفير 80 مليار جنيه من بيع أصول حكومية وخصخصة 23 شركة مملوكة للدولة بطرحها في البورصة، لتستكمل انسحابها الطويل من مجال الإنتاج، وتقديم الخدمات المباشرة.

وتتوافق محاور الموازنة مع المنطق النيوليبرالي، بتقليص دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي إلى حده الأدنى، وحصر دورها في تهيئة بيئة السوق، أو بالأحرى، وفي الحالة المصرية، هو دور أمني بحت لحماية مصالح رأس المال ودورته وتراكماته، يتم تمويل مصروفاته من أموال دافعي الضرائب كالعادة. ولا يبدو هذا مفاجئاً، فتقليص الدولة الاجتماعية وتضخيمها أمنياً كان قد أضحى منطق الاقتصاد المهيمن عالمياً لعقود، وكانت عمليات ذلك المنطق قد بدأت في مصر بشكل أو بآخر في عهد السادات، وتسارعت في النصف الأخير من عهد مبارك، ويبدو أن السيسي أكثر عزماً من سابقيه على الوصول إلى أقصى ما يمكن أن يقدمه النموذج النيوليبرالي، وفي أسرع وقت ممكن، عبر سياسات الصدمة، وبواسطة قبضة أمنية باطشة.

ما لا يخفيه بيان وزارة المالية، أن ذلك الفائض، ليس فائضاً حقيقياً. فالفائض الأولي هو الفرق بين إيرادات الدولة ومصروفاتها، والتوفير الضئيل الذي سيتم تحقيقه في هذا المجال، سيترافق مع قفزة مهولة في مخصصات خدمة الدين، من 437 مليار إلى 541 مليار جنيه، أي حوالى 23%، أي زيادة بمقدار الربع تقريباً في عام واحد فقط. هكذا، فإن الكلفة الاجتماعية الباهظة التي سيتم دفعها في الشهور القليلة المقبلة، من قفزات إضافية في أسعار المحروقات والكهرباء والمواد التموينية مع تغليظ العبء الضريبي، ستوفر مواردها لدفع كلفة الدين المتضخمة يوماً بعد آخر، لتلعب الدولة المصرية دورها المثالي في العرف النيوليبرالي العالم ثالثي، أي بوصفها وكيلاً عن الدائنين، ومحصلاً بالنيابة عن الاستثمارات المحلية والأجنبية في أدوات الدين الحكومية.

إجمالاً، تطمح الدولة إلى خفض العجز الكلي، من 9.8 إلى 8.4%، ورفع احتياطها من النقد الأجنبي ليغطي من 6 إلى 8 شهور من الواردات السنوية. وربما تبدو تلك الإنجازات المأمولة جديرة بالتضحيات التي على الطبقات الدنيا أن تدفع معظم كلفتها. إلا أن تلك الطموحات الحكومية تظل شديدة الهشاشة، فمجمل الموازنة مؤسس على افتراض متوسط لسعر لبرميل البترول لا يتجاوز 67 دولاراً، وهو ما خيبته أسعار السوق في أقل من أسبوع، مع ارتفاع سعره إلى 71 دولاراً. وتقر وزارة المالية، بعد إصدارها للبيان، بأن زيادة دولار واحد عن توقعاتها لسعر البرميل، ستقلب ببساطة حتى فائضها الأولي إلى عجز، على الرغم من كل خطواتها "التقشفية" شديدة القسوة. هكذا، فإن كل ما تخبرنا به وزارة المالية عن العام المالي الأول لدورة السيسي الثانية في الرئاسة، أن شيئاً ليس مضموناً، وأن الوضع رهن تذبذب طفيف في بورصات البترول. كل شيء هش إلى أقصى حد. لكن ما تضمنه لنا قطعاً هو قفزات في الأسعار، والمزيد والمزيد من الضرائب، وديون أكثر ونسبة أكبر من الموازنة لتغطية مخصصاتها، وبالطبع قبضة أمنية أكثر ثقلاً لكبح ما قد يقود إليه كل هذا، أو تأجيله على الأقل، إلى حين. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها