الأحد 2018/04/22

آخر تحديث: 08:07 (بيروت)

فاسدون بالضرورة

الأحد 2018/04/22
increase حجم الخط decrease

الفنان محمود حميدة النجم السينيمائي المصري المثير للجدل، يجلس في إحدى الندوات، بجوار رئيس هيئة الكتاب الدكتور أحمد مجاهد، بمعرض الهيئة العامة للكتاب بحي الطالبية بالجيزة، وهو معرض سنوي يقام في شهر رمضان، ويقول: لا ثورة إلا ثورة يناير، (الندوة كانت بعد انقلاب يوليو ٢٠١٣)، وكل من تخطى الخمسين عليهم أن يسكتوا تماما، فهم "فاسدون بالضرورة"، وأنا منهم!


يشرح محمود حميدة فكرته، ويستعرض ، على عجل، تاريخ مصر منذ ناصر إلى مبارك، فيقول إن بذور الفساد السياسي والاجتماعي كانت في عصر عبد الناصر، يرفض أحد الحضور، ويحاول رئيس هيئة الكتاب تهدئته، إلا أن محمود حميدة لا يلتفت ويكمل بثبات، هذه البذور بدأت في النمو في عصر السادات، مشيرا إلى بدايات اتخاذ الدولة للفساد بوصفه مشروعا في ذاته، ثم أينع هذا الفساد وأثمر في عصر مبارك، حتى صرنا - كنا يقول حميدة - نمشي تحت شجر الفساد ونقطف ثماره لا نلوي على شيء، وأصبحت الحياة في ظلال الفساد هي الحياة اليومية الطبيعية وصار الفساد هو طبيعة الأشياء، وانحرفت اللغة عن معجمها لتتخذ من المصطلحات ما يتناسب مع الفساد، وفسد كل شيء، وكل من عاش ووافق برأي حميدة هو فاسد بالضرورة ولو كان من داخله يرفض أن يكون فاسدا إلا أنه متورط إلى أذنيه بالسكوت والرضا والتماهي والقبول ....


يشير حميدة هنا، في بساطة، إلى الرشوة بوصفها معاملة اجتماعية يومية صارت جزءا من إيقاع المعاملات الرسمية وغير الرسمية، ويقول سميناها إكرامية، تسمية لطيفة ومبهجة وغريبة، بل مضللة، عن المعنى الأصلي، ذلك لأننا تربينا على أن الرشوة جريمة، محرمة أخلاقيا ودينيا، تربينا على أن الراشي والمرتشي والمرشي في النار، إلا أن طبيعة الحياة لم تعد تحتمل النص، وطبيعتنا لا يمكنها الانحراف عنه، فقررنا أن ننحرف باللغة لنخدع النص، وواقعنا، وأنفسنا، ونستجيب لداعي الفساد إذ دعانا ....


إذا مددنا الخط على استقامته، نجد مثال حميدة حاضرا بقوة في كل ما يحيط بنا من إرث الآباء، دينهم فاسد بالضرورة، تصوراتهم عن الحق والعدل فاسدة بالضرورة، تفسيراتهم فاسدة بالضرورة، ثقافتهم الأبوية، أوهامهم عن حق الحاكم، والمالك، والعالم، والواعظ، والأب، ومن قبله الجد، تصوراتهم عن حقوقهم على من يقومون عليهم كلها فاسدة بالضرورة، ومن ثم كل تصوراتهم السياسية عن الممكن، والمتاح، هي الأخرى تصورات مسممة بفيروس الفساد، الذي جاءوا من زمننا، وعاشوا فيه مكانا وسردية، وتنفسوه، ورضوا به، وتمادوا معه إلى الدرجة التي لم يستطيعوا منه فكاكا، حين منحهم جيلنا فرصة عمرهم، وحكموا بلادا كانت أقصى أمانيهم أن يعيشوا فيها خارج السجون، فإذا بهم يتبنون رؤى الفاسدين، الذين كانوا يعارضونهم بالأمس، عن الدولة والسياسة والحكم، ويتجاوزون بها قيم الجيل الذي أجلسهم على هذه الكراسي، وسرعان ما عادوا مرة أخرى إلى السجون وتسببوا في سجن من رفعوهم، وإذلال من أعزوهم، وقتل من أحيوا مواتهم، وتشريد من وطنوهم فلم يرعوا فيهم ثورة ولا وطنا ..


ضاعت الثورات العربية، حين قرر الشباب أن يمنحوا منجزهم على طبق من فضة إلى جيل الآباء، وضاع معها حلم جيل بأكمله في التغيير، داست الدبابات فوق جسد الربيع، هرسته، ساوته بالأرض، ولم يبق سوى أشلاء ممزقة، فتات ودم!


والآن، في المنافي، يكمل جيل الفاشلين، "الفاسدين بالضرورة"، مهمتهم المقدسة، في إفشال جيل الربيع العربي، وتحطيم آخر ما تبقى له من ثوراته، "القيمة" و"الأمل"، وقطع الطريق أمامهم في معاودة الكرة، أو حتى تربية جيل جديد على قيم الثورة، العدل والحريّة والكرامة الإنسانية، يفشلونهم في المبادرات السياسية لمعارضي الخارج، في المبادرات الإعلامية التي تجد من يمولها ، وهي الخطوة الأكثر صعوبة، لكنها بكل أسف، تجد أيضا من ينهبها، متماهيا مع منطق الدولة الفاسدة التي عاش معارضا لها بوعيه، متأثرا ومتورطا معها بلا وعيه، الذي وجد طريقه المفروش بالجثث للتحقق... صار النهب حقا مشروعا، والسرقة جزء من طبائع الأمور، وشهادة الزُّور تقديراً للموقف، واحتراماً للكبير، والسكوت عن الحق تعقلاً وحكمة، والمطالبة به "دوشة" ووجع دماغ، ونزقاً وتهوراً، تماما كما صارت المقاومة إرهابا، والمحتل مواطنا! ...  



الاستثناءات قائمة، ف"الخمسون" المقصودة في مثال الفنان المصري السالف لا تأتي وفقا لاشتراطات السجلات المدنية، إنما هو وعي أصحاب هذه المرحلة، في أغلبهم، ثمة من تجاوزوا واقعهم ونظّروا لأحلامهم وساهمت كتاباتهم في دفعنا إلى الميادين، نحلم بالحرية ونهتف لها ونموت على طرقاتها، كي يصل غيرنا، إلا أن الاستثناء حين يكون بهذا "الزهد" كما وكيفا، فهو يؤكد القاعدة ولا ينفيها، إن إزاحة هذا الجيل، جيل الفاسدين بالضرورة، هي أولى خطوات الثورة الحقيقية على هذا الواقع البائس، والتفكير في سؤال "كيف" هو أحد أهم واجبات هذه المرحلة، المحاولة، على ما تنطوي عليه من صعوبة وخطورة، واجبة، والنجاح على مجافاته لحسابات الواقع، محتمل ...


الفاسدون بالضرورة هم العقبة أمام "حياة" هذا الجيل، وتنحيتهم إلى زوايا المتابعة والمراقبة والنقد، لا التورط والاشتباك والمزاحمة على طريق مستقبل لم يعد لهم هو "المشروع" الذي يبحث عن مؤمنين جدد ... "مؤمنين بالحياة" ... ومن يدري؟  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها