الثلاثاء 2018/04/17

آخر تحديث: 00:21 (بيروت)

"هنا القاهرة.. هنا دمشق"

الثلاثاء 2018/04/17
"هنا القاهرة.. هنا دمشق"
مسيرات الموالين للنظام في شوارع دمشق بعد الضربة الأميركية البريطانية الفرنسية (غيتي)
increase حجم الخط decrease
ما إن بدأت الضربة الأميركية الاستعراضية في سوريا، فجر السبت، حتى انطلقت عبر شبكات التواصل الاجتماعي في مصر، حملة عفوية، للنبش في المعجم السياسي لخمسينات القرن الماضي، وإعادة تدوير تراث من المقولات السياسية الأرشيفية. "هنا القاهرة... هنا دمشق"، لم تكن الشعار الوحيد، بل كان "العدوان الثلاثي" على سوريا مجازاً آخر لربط العاصمتين، من ناحية، وإسقاطاً للحد الفاصل بين الماضي والحاضر أيضاً. وبين بضع أبيات من الشعر عن دمشق، نسخها المعلّقون بعضهم من بعض، تذكر الكثيرون في مصر أن بغداد سقطت، وأن بيروت سقطت من قبلها، ذات مرة، وأن القدس ربما ذهبت بلا رجعة.

لا حاجة إلى تأنيب هؤلاء على غفلتهم الطويلة عن الحرب المستمرة في سوريا لأكثر من سبع سنوات، ولا عن جرائم نظامها الممتدة أبعد من ذلك بعقود طويلة. فهم صادقون مع أنفسهم، في أن هبّتهم للتضامن، متعلقة بدمشق، وليس بالدمشقيين، وبسوريا لا بالسوريين. وهم في هذا لا يتضامنون مع النظام السياسي، ولا يأخذون موقفاً من معارضيه، وكذا لا يتورطون في نقاش حول الكيماوي وضحاياه. فدمشق هذه، مثل القاهرة تماماً بالنسبة إليهم، كناية جمالية عن شيء ما، ترميز شعري غامض، ينتمي لعالم الأخيلة والقيم المجردة، لا البشر من دم ولحم.

فالسوريون، الذين يسقطون يومياً في هجمات من كل شكل ولون، ليس ما يهتم به رافعو شعار "هنا القاهرة" في هذا السياق. فمعروف أن الفرد يتضاءل جداً أمام الكل، وأن الجموع تهون حيواتها في سبيل المجاز، وأن البلاغة أطول عمراً وأكثر خلوداً من البشر، بل وحتى من الدول.

ومن الظلم الادعاء بأن هؤلاء جميعاً، من مؤيدي النظام المصري، وأن الأمر كله مجرد إسقاط لنظريات المؤامرة الإعلامية في مصر على سوريا، أو تصفية حساب مع "الربيع العربي" أصل كل الشرور. فحتى أنصار النظام في مصر، لم يتمكنوا من أن اتخاذ موقف حيال كل تلك البساطة والمباشرة وراحة الضمير، إذ واجهتهم معضلة واحدة على الأقل، إن لم يكن أكثر. فإن كان النظام السوري في حربه مع "الإرهابيين"، هو المقابل للنظام المصري في معركته مع الإرهاب، فإن ترامب وبشكل غامض، هو حليف للسيسي، على عكسه سابقه أوباما، وكذا في مقابل غريمته كلينتون وفوضاها الخلاقة. فمع من ينبغي الوقوف هذه المرة؟

إلا إنه من الظلم اتهام أصحاب حملة التضامن مع "دمشق" المجازية، بالبلادة، أمام أسئلة أكثر تعقيداً في شأن الحرب في سوريا. فموقف هؤلاء، في معظمهم، ليس سوى انعكاس اختزالي لما وصل إليه الأمر في كل من دمشق والقاهرة. الحرب في سوريا، والتي تبدو وقد حسمت لصالح النظام، أو على الأقل لصالح اقتسامه مناطق نفوذ بينه وبين قوى إقليمية ودولية، لم تعد تبيح الكثير من المواقف الأخلاقية الممكنة، أو حتى اتخاذ مواقف لها صيغة الحد الأدنى من البراغماتية. أما في مصر، فالأمر أفضل حالاً بالطبع. فخراب عميم حل بسوريا، تم تفاديه مصرياً، أو على الأقل تأجيله إلى حين. لكن التسارع في تدمير كل ما هو سياسي وأهلي وجماعي وقيمي، في مصر، خلال السنوات القليلة الماضية، كان قد جرّد المصريين من مفردات أي قاموس أخلاقي، وحرم معظمهم من مخطط للواقع أو طموح لمستقبل لبلادهم، صالح للقياس عليه أو المقارنة به.

لم يجد هؤلاء، أمام عجزهم تجاه هذا الخراب القيمي، سوى الماضي، وبضعاً من مقولاته الجاهزة التي تتيح موقفاً أخلاقياً مريحاً، وبلا تبعات. دمشق المجاز، أكثر قابلية للتضامن، وأخف وطأة على الضمير بالطبع، من دمشق التي يقتل بعضها بعضاً. والقاهرة الرمز أكثر بهاء، ولها حق المباهاة بمقاومة الإمبريالية بالتأكيد، مقارنة بقاهرة الواقع المهزومة أمام نفسها والمنسحقة تجاه أسيادها الإقليميين والدوليين. العودة إلى تقسيم خطوط المعركة على أنها بيننا وبين العدو الأميركي، وأعوانه من قوى الاستعمار القديم، بريطانيا وفرنسا، خيار سهل، وأكثر مباشرة من سواه، ولا يتطلب سوى القليل من القدرة على الحنين، وتذكُّر منهج المدرسة الإعدادية.

"هنا القاهرة... هنا دمشق". العبارة ليست مجرد مهرب من العجز أمام الواقع، أو محض بلادة في وجه تحدٍّ أخلاقي خطر. بل هي أيضاً الوجه الآخر لمقولة "مش أحسن من سوريا والعراق؟"، في ترسيخها للوضع القائم، بالهرب منه إلى الماضي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها