الثلاثاء 2018/04/10

آخر تحديث: 10:50 (بيروت)

غزة: استعراض الموت

الثلاثاء 2018/04/10
غزة: استعراض الموت
بعد "جُمعة الكاوتشوك"، منعت إسرائيل دخول الإطارات إلى غزة (غيتي)
increase حجم الخط decrease
بعد جُمعة "الكاوتشوك"، يتأهب الجميع لجُمعة "حرق العلم"، وينقل الإعلام صوراً لرقصات الدبكة عند الحدود، وزفاف في إحدى نقاط التخييم، وصور "طفل البصلة"، ومحاضرة لدكتور جامعي على كراسي بلاستيكية مغروزة في الرمال، عروض مهرجين في مرمي نيران القناصة الإسرائيلية، ومحتجين يرتدون أقنعة "فانديتا" وهم يشعلون الإطارات. لا تصعب بالطبع رؤية صلة وثيقة بين الجُمَع الغزاوية، وما سبقها من جُمَع الانتفاضات العربية، وكذا الطبيعة الاستعراضية للنوعين.

يذهب البعض إلى أن "الكاوتشوك"، قد نجح بالفعل. فدخانه حجب الرؤية عن القناصة الإسرائيليين، والدليل هو سقوط عدد أقل من القتلى مقارنة بالجُمعة السابقة. لكن الأرجح أن حرائق الإطارات نجحت في غير هذا. فسُحُب الدخان الأسود، شديد الكثافة، غير رمزيتها الغاضبة، كانت فرصة لوقف الزمن أمام عدسات الإعلام، لالتقاط صُور "يوم القيامة"، تماثل تلك التي تنقلها الشاشات بعد غارات الطائرات الإسرائيلية، بل وربما أحلك وأكثر سواداً.

لا تخلّف أدخنة حرائق الإطارات، قتلى أو جرحي، لكنها، في قتامتها، تحمل رسالتها بوضوح عن الخراب واليأس. وفي خطوة تستهدف الرمزي أيضاً، وإن كانت لها تبعات مؤلمة على حيوات المحاصرين في غزة، تمنع سلطات الاحتلال دخول الإطارات إلى القطاع إلى أَجَل غير محدد. هكذا، تستعرض إسرائيل، مرة أخرى، تلك السلطة المطلقة والإلهية على ضحاياها.

وكما في رمزية احتجاجات الانتفاضات العربية، تأتي الاستعراضية مقترنة بغياب القيادة السياسية، ومحدودية الخيارات. في الانتفاضات العربية، بدأت الاحتجاجات سلمية، وانتقلت إلى حمل السلاح. في غزة، يبدو الأمر معكوساً، أو أقل وضوحاً. فللفصائل الفلسطينية، بمشاربها المختلفة، خبرات تاريخية طويلة في النضال المسلح، وللجماهير تاريخ ممتد من الانتفاضات والاحتجاجات شبه اليومية. وهناك، تنتقل الأمور من الطعن إلى رقص الدبكة، ومن إطلاق الصواريخ إلى إحراق الكاوتشوك، ويستمر الإثنان معاً في أحيان أخرى.

لكن الأمر في بطوليته التراجيدية، يستدعى الكثير من الشفقة والشعور بالعجز. فكيف لهؤلاء أن يواجهوا واحداً من أكثر جيوش العالم تسليحاً وقسوة بمجرد حمل مرايا عاكسة؟ وماذا لقناع "فانديتا" أن يفعل مع طلقات الرصاص؟ الأمر ليس استعراضاً خالصاً هنا، فكل إشارة رمزية يرفعها المحتجون في غزة تعني مواجهة خطر الموت. وكما يقول وزير الدفاع الإسرائيلي: "لا أبرياء في غزة". فكل فرد يشارك في فاعليات الحدود، يعرف أن الموت حاضر، وبلا ثمن من المنتظر أن يدفعه المعتدي.

إلا أن غزة، يحفظها العالم كعِبرة حيّة للتمرد على الاستعمار وحكم القوي، وحيث يُحاصر مليونان من البشر في عزلة شبة كاملة عن الجغرافيا والزمن، في أكبر معسكر "للا عمل" وربما أوسع غيتو عرفه التاريخ لليأس الكامل. في غزة، لا يتبقى سوى الموت. فتلك القوة المطلقة التي تمارسها إسرائيل، بتواطؤ كامل من العالم، هي صورة للموت الحي، التي تحول البشر إلى جثث، من أجل أن تُطبق سيطرتها الكاملة عليهم. والموت عمداً، وبوعي، هو الصورة الوحيدة الممكنة لعكس تلك القوة، والخيار الوحيد الممكن لمقاومتها.

هنا، الموت هو الفعل التام الوحيد. فهؤلاء الذين لم يُترك لهم في حياتهم ما هو أهم من تركها، لا يملكون سوى أجسادهم للتضحية بها. وفي إدراكهم، أنهم، ولو فقدوا الأمل في كل شيء، فإنهم ما زالوا يملكون قدرة مجابهة الموت ببسالة. يوظفون موتهم هذا، لا بوصفه سلاحاً، بل كوصف لقضيتهم. لا يستعرض هؤلاء موتهم أمام العالم، بغية تضامن طال انتظاره. بل يفعلونه لأنفسهم، فمواجهة الموت هي الفعل الوحيد المتاح بكرامة.

واستعراض الموت ليس مجرد شحنة رمزية، أو فعلاً انتحارياً مكللاً باليأس. فإسرائيل بالفعل قلقة، ولها أن تقلق حقاً. فماذا لو خرج مئات الآلاف من المقموعين حقاً على طول الحدود، من غزة والضفة والداخل، وبدأوا في مسيرة العودة؟ هل يستمر "أكثر جيوش العالم أخلاقية"، كما سمّاه نتنياهو، في إطلاق النار عشوائياً؟ وكم سيكون عدد الضحايا؟ وإلى متى سيستمر إطلاق النار؟

لا يمكن الجزم إن كنا سنرى استجابة من الجماهير الفلسطينية بهذا الحجم، في يوم الزحف الكبير الموافق لذكرى النكبة، كما يأمل منظمو حراك "مسيرة العودة". ولا نعرف بعد إن كان ذلك اليوم سيشكل انطلاقة لانتفاضة جديدة. لكن المؤكد أن الحراك الأخير في غزة، يثبت مرة أخرى، أنه، ومع انقسام القيادة الفلسطينية وتحللها، وطرح الحكام العرب - وفي أحيان كثيرة شعوبهم أيضاً - للقضية الفلسطينية وراء ظهورهم، ومع الموقف الأميركي شديد العدائية ضد حقوق الفلسطينيين، فإن الوضع القائم لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه إلى الأبد. سياسات القوة الغاشمة والمطلقة، لا يُكتب لها أن تكون فعالة في المدى الطويل. فنقطة ضعفها هي أنها تنتهي بمساواة الحياة والموت في عيون ضحاياها. بل، وفي أحيان كثيرة، تمنح الموت أفضلية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها