الثلاثاء 2018/03/06

آخر تحديث: 00:06 (بيروت)

الصراع على الإسكندر

الثلاثاء 2018/03/06
الصراع على الإسكندر
increase حجم الخط decrease
مطلع الشهر الماضي، احتشد أكثر من 150 ألف متظاهر، وسط العاصمة اليونانية. ولم تكن التظاهرة التي تقاطر إليها المحتجون من عشرات الجزر اليونانية، موجهة ضد سياسات التقشف القاسية أو إجحاف اشتراطات الاتحاد الأوروبي، كالعادة. فشعارات "مقدونيا هي اليونان" التي رفعها المحتجون، كانت موجهة إلى المفاوضات بين الحكومة اليونانية وحكومة جارتها الصغيرة، جمهورية مقدونيا. فبعد خلاف دام أكثر من 27 عاماً، حول الاسم الرسمي للجمهورية التي كانت جزءاً من يوغوسلافيا السابقة، توصلت الحكومتان اليساريتان للبلدين، وبوساطة من الأمم المتحدة، إلى إنجاز تقدم ما. فحكومة مقدونيا طرحت أربعة حلول، لتغيير اسمها الذي تتشاركه مع إقليم يوناني أيضاً. لكن تغيير الاسم إلى مقدونيا الشمالية، مثلاً، كضمانة للتخلي عن أي مطالب في الإقليم الجنوبي، لا يبدو كافيا للمحتجين اليونانيين. فهم يتمسكون بموقف الحكومات اليونانية السابقة، أي عدم استخدام كلمة "مقدونيا" في اسم جارتهم على الإطلاق. وفي الجانب الآخر من الحدود، يوم الأحد الماضي، احتشد عشرات الآلاف من المتظاهرين، أمام تمثال "الإسكندر الهيليني"، في العاصمة المقدونية. وكان شعار "نحن مقدونيون" الذي رفعه المحتجون في وجه ما اعتبروه تنازلاً من حكومتهم، قد واكبته مشاهد إحراق العلم اليوناني في مظاهرات متزامنة للجالية المقدونية في العواصم الغربية.

والحقيقة أن الخلاف لا ينحصر في الاسم، أو المخاوف من مطالب إقليمية مستقبلية، بل يشمل حق امتلاك تاريخ بعينه، وتمثيله. فالمقدونيون، الذي يتمسكون بنسبة الإسكندر إليهم، لا يسبغون عليه لقب المقدوني، بل الهيليني، في ادعاء قومي بامتلاك الحضارة الهيلينية وإمبراطوريتها. أما اليونانيون، التي قد يندهش مَن يدقق في طريقة تعبئتهم لخانة الجنسية في المطارات، وجوازات سفرهم، إذ لا يشيرون إلى بلدهم في الوثائق الرسمية باسم اليونان (غريس)، بل باسم الجمهورية الهيلينية (هيلاس). فاليونان يظل اسماً يشير إلى مجرد بلد، بينما تحمل النسبة الهيلينية دلالات أوسع، تشير إلى حضارة كوزموبوليتانية، وتؤكد انتساباً إلى إمبراطوريتها.

لكن تلك الإشارات الإمبراطورية التاريخية، لا تبدو استثناءً في السياق اليوناني. فالكنائس الأرثوذكسية اليونانية، ما زالت ترفع على بواباتها، علمَين: واحد للجمهورية اليونانية، والآخر علم الإمبراطورية البيزنطية. وبالطبع، فإن تمثال آخر أباطرة بيزنطة، قسطنطين باليولوجس، المنتصب في وسط أثينا، يظل تذكيراً بأسطورة الملك الرخامي الذي سيعود من الموت لاستعادة بيزنطة وإمبراطوريتها. لكن عودة الملك الرخامي ليست مجرد أسطورة فولكلورية، فقد كانت واحدة من أهم أيقونات حرب الاستقلال اليونانية ضد العثمانيين، ولاحقاً تم توظيفها في لحظات تأجج المشاعر القومية في التاريخ الحديث للجمهورية اليونانية.

ورغم أن الصراعات الدموية والنزاعات السياسية في منطقة البلقان، كانت وما زالت، في جزء كبير منها، مؤسسة على أساطير إمبراطورية ومظلوميات تاريخية تعيد إلى قرون مضت، إلا أن الخلاف اليوناني المقدوني يبدو مختلفاً بعض الشيء. فالصراع لا يتأسس على الاختلاف هنا، ولا التمايز دينياً أو عرقياً، ولا يتحاجج أطرافه بظلم تاريخي. بل يدور الصراع حول النسب الواحد، والمتشابه والمشترك، والحاجة إلى فصلهما تعسفياً، وفك ارتباطهما بالكامل، بادعاء ملكية حصرية.

لكن، ومع أن منطق الصراع هذا، هو أحد أهم محاور الدولة القومية الحديثة كما نعرفها اليوم، وأحد أركان أيديولوجيتها للتجانس، فإن حلولاً وسطى تصبح أكثر إمكاناً بتأثير بُنىً للحكم عابرة للقوميات والحدود السياسية. فورقة الضغط الرئيسية التي استخدمتها اليونان ضد جارتها، كانت الوقوف أمام طموحها للانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. ولا تخفي الحكومة المقدونية أن الهدف الرئيسي من التنازلات المستعدة لتقديمها لترضية اليونان، هو التجهز للانضمام للاتحاد الأوروبي. إلا أن المفارقة الكاشفة هنا، هي أن الاتحاد الأوروبي، الذي يبدو تأثيره جوهرياً في الصراعات القومية البينية واستبدالها بتسويات لها منطق حسابات المصلحة والمنفعة، ومشاركة التراث المتنازع عليه، كانت اليونان نفسها على وشك الخروج منه قبل أعوام قليلة، ولأسباب لا تتعلق بالقومية، بل بانهيار وعود المنفعة المشتركة تحديداً.

ويأتي التقدم في ملف الخلاف اليوناني المقدوني، جنباً إلى جنب مع نتائج الانتخابات العامة الإيطالية التي كشفت عن ميل تصويتي معادٍ للاتحاد الأوروبي، ليؤكد مرة أخرى المشهد المعقد للاتحاد الأوروبي، كمشروع عابر للقوميات ومؤكد لها في الوقت ذاته. ويكشف هذا كله، تشابك خطوط المنفعة المشتركة وإيديولوجيا الهوية الأوروبية الجامعة في مواجهة إيديولوجيا الدولة القومية المتجذرة في كل دولة. فرغم الهزات العنيفة، منذ استفتاء "بريكست"، والصعود المتتابع للأحزاب القومية في شرق أوروبا، فإن الاتحاد الأوروبي يبدو قادراً على التوسع، وتدجين تناقضات القومية في داخله، لا بنفي حنين كل منها إلى إمبراطوريتها المفقودة، بل بتقديم بديل أقل صدامية لها، ووعود بالرفاه والمنفعة المشتركة يتحقق بعضها أحياناً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها