الثلاثاء 2018/03/20

آخر تحديث: 07:44 (بيروت)

حرب باردة صغيرة

الثلاثاء 2018/03/20
حرب باردة صغيرة
تيريزا ماي، التي تزداد شعبيتها، استُقبلت بالورود في موقع محاولة اغتيال سكريبال (غيتي)
increase حجم الخط decrease
للمرة الأولى منذ شهور، تتفوق رئيسة الوزراء البريطانية على منافسها، جيرمي كوربين، في استطلاعات الرأي. فبعد تعثر طويل في مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، وخروج صراعات داخلية في حزب المحافظين إلى الملأ، وإقرار تيريزا ماي قبل أيام بأن الجمهور البريطاني لم يعد يأتمنها ولا يثق في حزبها بخصوص إدارة جهاز الصحة الوطني، يبدو أن حظوظها تغيرت فجأة في خلال أيام قليلة. فمحاولة اغتيال الجاسوس الروسي البريطاني المزدوج، سيرجي سكريبال، وابنته يوليا، باستخدام غاز الأعصاب في مدينة سالزبري جنوبي إنجلترا، كانت وراء استعادة ماي الكثير من شعبيتها في مقابل كوربين.

فمسارعة الحكومة البريطانية إلى اتهام روسيا بتدبير عميلة الاغتيال، بل والإشارة إلى أن الكرملين وبوتين شخصياً، كانا وراء العملية، حظيا بدعم وسائل الإعلام التي سارعت إلى استعادة لغة الحرب الباردة، بحذافيرها، ومعها تقسيمات "الشرق" و"الغرب"، بمعناها في زمن الخطر الأحمر. وفيما أجج مخيلة الحرب، طردُ بريطانيا 23 دبلوماسياً روسياً من أراضيها، وردّ روسيا بالمثل، فإن وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، تجاوز لغة الحرب الباردة، إلى ما قبلها. وبحسب تصريحه، بوتين مسؤول عن استخدام غاز الأعصاب، في الشوارع الأوروبية، للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. هكذا، تجاوز الأمر صراعات النفوذ بين الكتلتين الشرقية والغربية في الماضي، إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل في المدن الأوروبية.

وفيما حظي الخطاب الحكومي والإعلامي الحاد تجاه روسيا، برضى جماهيري انعكس في استطلاعات الرأي، فإن دعوة كوربين إلى التروي، وانتظار نتائج التحقيقات قبل الاندفاع في ردود الفعل المبالغ فيها، قوبلت بالكثير من الاستهجان. فغير أن زعيم حزب العمال، الناشط في حركة مناهضة الحرب، لطالما تم اتهامه بالليونة وافتقاده للعزم الكافي لمواجهة التهديدات الأمنية، فإنه أيضاً لم يسلم من الوصم بتهمة التعاطف مع المنظمات الإرهابية، وكذلك الميل تجاه الروس. ولا تبدو تهمة التعاطف مع موسكو عصية على التصديق، فروسيا محظوظة بأصدقائها حول العالم، من أقصى يمين الحركات العنصرية في أوروبا إلى أقصي اليسار الغربي المناهض للإمبريالية، وصولاً إلى معسكر الممانعة العربية، جنباً إلى جنب مع مؤيدي السيسي من عشاق الدب الروسي وصور بوتين عاري الصدر.

لكن، وكما أن أصدقاء الكرملين حول العالم، يمثلون خليطاً سياسياً متناقضاً، يسيّره البؤس والانتهازية في آن واحد، فإن استخدام ورقة الوصمة الروسية لا تقل انتهازية. وكما يستخدمها الديموقراطيون في أميركا ضد ترامب، يستخدمها حزب المحافظين في بريطانيا ضد كوربين. هكذا، ومع تراجع موجة الهجمات الإرهابية في العواصم الغربية، وأفول كابوس "داعش"، فإن الخطر الروسي، الذي يتراوح من التأثير الإلكتروني في الانتخابات، إلى استخدام الأسلحة الكيماوية في المدن الأوروبية، مروراً بالاجتياح العسكري لدول الجوار، يتحول رويداً رويداً إلى الخطر المقبل. إذ أعلنت وسائل الإعلام حالة تأهب في بريطانيا، شملت المرافق الحيوية، خوفاً من هجمات روسية، وصلت إلى تحذيرات من إمكانية تسميم محطات مياه الشرب.

فـ"الخوف السائل"، بحسب زيغموند باومان، هو منطق الدولة المحلية في عصر "العولمة السلبية"، وربما منطقها الوحيد الذي لا غنى عنه. ما تمثله تيريزا ماي، وسياسات حزبها النيوليبرالية، ومعها الموجة العالمية نحو تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي، لا يترك للدولة سوى دورها الأمني. ونزعة الأمن تحتاج إلى الخطر، الدائم والداهم. وإن كان "الشرق" الإسلامي، وخطره، أصبح أقل تهديداً، فأن "الشرق" الروسي، يظهر فاعلية في تأطير الخوف. هكذا، تعوض حكومة المحافظين، نقمة الجمهور تجاه سياساتها المدمرة للخدمات الصحية والاجتماعية، بإطلاق صيحات الحرب والخوف والانتقام. وفي الجانب الآخر، يكتسب بوتين المزيد من النقاط، في الساحة الداخلية، قبيل أيام من انتخابه مرة جديدة. ورغم التراجع الاقتصادي الروسي، خلال الأعوام القليلة الماضية، ما زال الزعيم القوي، الذي يعيد لروسيا أمجادها وتوسعها العسكري، ويستأصل أعداءها في الخارج، واحداً بعد الآخر، فيما يلهو عملاء مخابراتها بأسلحتهم الكيماوية، بمنتهي الحرية والاستخفاف، في مدن الجنوب الإنجليزي الهادئة.

لكن "العولمة السلبية" التي تحدث عنها باومان، لا تجعل الدولة قادرة سوى على إثارة الفزع وغرائز الصراع. ومع تراجع الدول عن أدوارها الاجتماعية، فإن انسحابها الأول، يكون في المجالات الرأسمالية المباشرة. ومع كل الضجيج التي أثارته الحكومة البريطانية بخصوص قضية سالزبري، فإن تهديداتها بمعاقبة المقربين من الكرملين، وفرض عقوبات اقتصادية عليهم، تهاوت إلى لا شيء. فلندن التي تستضيف مصارفها وقطاعها الإنشائي، مليارات الروبيلات، التي تم تبييضها أو استثمارها بشكل شرعي، غير مستعدة لتهديد سمعتها كملاذ آمن لطبقة المليونيرات الجدد، من روسيا وغيرها. لا تبدو الحكومة البريطانية عازمة عن حق، أو قادرة، تحت تأثير ضغوط من المؤسسات المالية، على فرض عقوبات على دائرة الكرملين في أراضيها، ولا تغيير قوانينها لتصبح أكثر شفافية. فضمانة حرية حركة الأموال والاستثمارات، والأغنياء بالطبع، هي جوهر العولمة و"الحكم الرشيد"، في صورته الحالية.

ما زال سكريبال يرقد في حالة حرجة في المستشفى، فيما فاز بوتين في الانتخابات الروسية، وماي تحتفل بارتفاع شعبيتها أخيراً، وتهدأ طبول الحرب قليلاً في الجانبين، لاستعادة حالة البرودة في حرب يحتاجها الجميع.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها