السبت 2018/03/17

آخر تحديث: 10:14 (بيروت)

القدس في الخطاب الإيراني

السبت 2018/03/17
القدس في الخطاب الإيراني
increase حجم الخط decrease

للقدس مكانة مركزية في خطاب الثورة الإسلامية الإيرانية منذ نجاحها، بدا تحرير القدس فيه مقصدَ الثورة الأول وغايتها النهائية. وقد ترجم هذا الخطاب عملياً بتقديم كافة أوجه الدعم لتعزيز الكفاح الفلسطيني، وترجم أيديولوجياً بإعتبار تحرير القدس واجباً مقدساً لا يتحقق إلا بإزالة إسرائيل من الوجود. وهو خطاب استجاب له المزاج العربي، الشعبي والنخبوي، بل هلل له، ورأى فيه بداية تحرر من شعور بالعجز، وتعويضاً عن انتكاسات متلاحقة في الصراع العربي الاسرائيلي.

ورغم النجاح الموضعي الذي حققه هذا الخطاب في الجنوب اللبناني (التحرير عام 2000 والصمود البطولي أمام آلة الفتك الإسرائيلية في العام 2006)، إلا أنه عجز عن تحويل هذا النجاح ظاهرة عربية عامة، بل لم يغير من حال الاشتباك العربي الإسرائيلي شيئاً، ولم يعدل من موازين القوى بين الطرفين.  لسبب واضح وبسيط، أن الخطاب الإيراني جاء من خارج السياق العربي ولا يتناغم في منطقه وإملاءاته مع التكوين الثقافي العربي وبناه الاجتماعية وأزماته السياسية. بل أصبح خطاب الثورة الإيرانية، وطموحها الجامح بتصدير الثورة، أزمة إضافية تضاف إلى تعقيدات الواقع العربي.

جاء خطاب القدس الإيراني مثقلاً بإيديولوجية ولاية الفقيه، التي تنتمي باستدلالاتها ومفرداتها إلى مجال فكري ومذهبي غريب عن التداول العربي العام، وبعيد عن خصوصية الانتظام السياسي العربي.  كذلك جاء هذا الخطاب مغلفاً بعقيدة مذهبية، سعى الإيرانيون إلى تعميمها وشن حملات دعوة شاملة لزرعها داخل المجال العربي، بخاصة في الجزء الأفريقي منه. حيث ترسخ انطباع بأن تصدير الثورة ملازم لتصدير المذهب الإمامي. وهي حملات باءت بالفشل الذريع، لأنها قدمت المذهب الإمامي بطريقة رديئة، ولأن حملات التشيع ولَّدت شعوراً عربياً-سنياً بتهديد هوية المجتمع وبأنه مخترق سياسياً وأمنياً.

المذهبية الفاقعة في خطاب الثورة تسبب بإرباك كبير للمكون الشيعي العربي نفسه، بل أسهم في خلق أزمة علاقة جدية بين هذا المكون والمكونات العربية الأخرى. وهي علاقة لم تكن في السابق في أحسن أحوالها، إلا أن الأداء الإيراني نقلها من أزمة غبن وتهميش كما كان حال شيعة العراق ولبنان، إلى أزمة هوية وولاء عبر ترسيخ تعارض خطر بين هوية الشيعة العرب وولائهم السياسي للدولة، وإلى أزمة انتماء ووعي عبر تعميم ثقافة وأدبيات وطقوسيات في غاية الخصوصية والغرابة أحياناً لتعميق اغتراب الشيعة العرب عن محيطهم الاجتماعي والثقافي.    


غفِل هذا الخطاب خصوصية الواقع العربي بل تجاهلها. صحيح أن القدس قضية مركزية في الراهن العربي، إلا أنها ليست القضية الوحيدة. إذ إن أزمات الداخل العربي، وفي مقدمها الاستبداد السياسي، تتفوق في خطورتها على قضية القدس نفسها.  بل تبين أن تخبط التنمية ولاعقلانية الانتظام السياسي العربي، كانا وراء الخلل في موازين القوى بين إسرائيل والعرب، وليس النقص في عدة أو مهارة القتال.

هذا يعني أن خطاب القدس جاء من خارج سياق الصراع العربي الإسرائيلي، وفاقداً لأية فعالية حقيقة أو استراتيجية فعلية منتجة. بل أصبح خطاب مزاودة تخدم أغراضاً تعبوية خاصة بالنظام الإيراني، وتابعاً لتقدير أمنه القومي الذي تحركه اعتبارات مصلحة الدولة، قبل إلزامات الواجب الأخلاقي أو الوازع الديني.

بل يمكن القول أن خطاب القدس ظل ، وفق لغة تعبيره ومنطق صياغته، أجنبياً عن المزاج العربي وخارجياً عن أصول التواصل معه. ما عكس لامبالاة تجاه الهواجس والآمال العربية، وغياباً فاضحاً في أدبيات الثورة الإيرانية لأية معرفة أو دراية بخصائص الوعي والتفكير العربيين، مقابل ضخ كم هائل من أدبيات التبجيل والتبشير بالثورة، وعدم جدية في تقديم إسهامات إيجابية لمعضلات العرب الفعلية التي تتجاوز في بعض وجوهها أزمة فلسطين نفسها.  إنه خطاب يملي ولا يحاور، يستخف بقدراتك الذهنية، يتوقع منك أن تكون منصتاً لا مناقشاً، ويريدك حيث ما يريد أن تكون لا حيث ما تريد أنت.

هذا يفسر عبثية التعاطي الإيراني مع المشهد العربي الداخلي. فحين انتصرت الثورة الإيرانية أخذت تدعم وتمول تنظيمات جهادية ذات تأويلات مدمرة للحياة العامة، وحين أسقط الأمريكيون حركة طالبان بمساعدة علنية من إيران، عمد النظام الإيراني إلى تسهيل انتقال القاعدة ومدها باللوجستيات اللازمة لزعزعة الوجود الأمريكي في العراق. ومع ظهور الثورات العربية أخذ قائد النظام الإيراني يؤولها على أنها امتداد طبيعي للثورة الإيرانية، وحين اندلعت الثورة في سوريا الحليفة تبدل الموقف لتصبح ثورات إرهاب وعمالة.

بل يمكن القول إن خطاب القدس فقد صدقيته بعد أن سقط في الاختبار الأخلاقي مرتين: الأول حين صار خطاب تحرير القدس أداة تعبئة وذريعة لزعزعة كيان الدول العربية، وتفكيك نسيجها الاجتماعي، وزرع بؤر أمنية تحصر ولاءها بالنظام الإيراني.  أما الثاني، فهو اعتماد شعار تحرير القدس أداة قمع وتخوين، وملاذاً خادعاً لإراحة الضمير من خنق إرادة شعب عربي (السوري) استيقظت فيه دوافع الحرية.

جهد الإيرانيون في انتزاع المبادرة من العرب، بإخراج القدس من السياق العربي وإعطائها سياقاً إيرانياً خاصاً يخدم مداهم الحيوي داخل المجال العربي. هو جهد كلفهم الكثير من دون أن يحقق أغراضه، لأنه ينزع إلى تغيير طبائع الأمور. بيد أن الإخفاق الأصعب هو أن هذا الجهد نقل الشك العربي العام بالنوايا الإيرانية إلى يقين، وبدَّل الترحيب بدعم "المقاومة" ضد إسرائيل إلى ريبة في المقاصد والأهداف البعيدتين، وعمق الهوة التاريخية بين ثقافتين (العربية والفارسية) كانتا مصدر وأساس الحضارة العربية-الإسلامية في زمن ذروتها.

نكرر مطالبة النظام الإيراني بأن يعيد النظر ويتبصر في الواقع العربي من جديد، بكلياته ودقائقه، ولا ينخدع بانتصارات جزئية وآنية تُفوِّتُ عليه التقاط الصورة بوضوح.  

        

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها