السبت 2018/02/24

آخر تحديث: 13:36 (بيروت)

الغوطة وهيبة روسيا

السبت 2018/02/24
الغوطة وهيبة روسيا
increase حجم الخط decrease

تذّكر الدبلوماسية ، التي تعتمدها روسيا في مجلس الأمن الدولي بشأن التصويت على الهدنة السورية ، بسياسة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ، التي أطلق عليها أحد وزراء الخارجية الأميركيين تسمية "دبلوماسية المثانة". كان يقال أن الأسد ، ولدى استقباله ضيفاً "مهما" بالنسبة له ، يحرص على إطالة اللقاء ساعات وساعات ، وهو يحدث ضيفه في شتى المواضيع ، إلى أن تمتلئ مثانة الضيف ويصبح "جاهزاً" لمناقشة الموضوع الأساس .

المماحكات، التي تعتمدها روسيا منذ الخميس الماضي في مناقشة قرار الهدنة في مجلس الأمن ، أنهكت اعصاب جميع مندوبي المجلس،  وجعلت مندوب السويد أولوف سكوغ يقول بأن " الأمر محبط للغاية . لكن المماحكات الروسية هذه بالكاد تخفي المماطلة المكشوفة والإستخفاف بالحملة العالمية المستنكرة للجرائم ، التي ترتكب في الغوطة . فقد رأى المندوب الروسي الدائم في مجلس الأمن ، أن المعطيات ، التي قدمت إلى اعضاء المجلس حول ضحايا الغارات على الغوطة ، بأنها صدى "الجنون العام" ، الذي يلف العالم ، والقرار بصيغته الحالية " غير واقعي". ورأى الرجل ، أن المفاوضات حول نص القرار جرت خلال أسبوعين ، لم يتم التوصل خلالها إلى صيغة نهائية ، لكن مندوبي الكويت والسويد ، وبدعم من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ، أصرا ، مع ذلك، على طرح القرار فوراً للتصويت .

الإعتراضات الجديدة ، التي ابداها المندوب الروسي في مجلس الأمن ، والتي نشرتها نوفوستي صبيحة السبت ، تشير إلى أن روسيا ليست أبداً في عجلة من أمرها . وهي تنظر ، بكثير من الشك، إلى كل ما يجري في مجلس الأمن ، وما يجري في العالم من استنكار لمجازر الغوطة ، ليس سوى محاولة لحرمان روسيا والنظام السوري من "الإنتصار" ، الذي يتحقق هناك . فقد ذكرت الوكالة ، أن روسيا قدمت الخميس الماضي ما تراه من تعديلات على نص القرار . وأول الإعتراضات الروسية يطال تحديد مدة 72  ساعة  لبدء تنفيذ الهدنة بعد إقرارها ، فاقترحت هي عدم ذكر موعد لبدء نظام وقف إطلاق النار ، والإكتفاء فقط بالإعلان عن ضرورة " وقف الإشتباكات بأسرع ما يمكن" . ونقلت عن وزير الخارجية سيرغي لافروف ، بأن موسكو اقترحت صيغة للقرار " تسمح بجعل حلول الهدنة امراً واقعياً ومرتكزاً إلى ضمانات الجميع ، ممن هم داخل الغوطة الشرقية...ومن هم خارجها من اللاعبين ، الذين يملكون نفوذاً على المجموعات المتطرفة ، التي تتمترس في ضاحية دمشق هذه" .

وتجدر الإشارة ، إلى أن نوفوستي تتحدث للمرة الأولى ، نقلاً عن موقع وزارة الدفاع الروسية، ليس عن المجموعات الإرهابية ، بل عن "تشكيلات مسلحة غير قانونية " تواصل عرقلة خروج السكان من المناطق ، التي تسيطر عليها ، وأن الكثيرين من السكان المدنيين بحاجة إلى عناية طبية عاجلة .

هذا الإهتمام الروسي المفاجئ بمن هم "بحاجة إلى عناية طبية عاجلة" ، ليس سوى محاولة مكشوفة للإلتفاف على الحملة العالمية الواسعة المستنكرة للجرائم ، التي يرتكبها النظام ،تحت مظلة الطيران الروسي، بحق السكان المدنيين . ولا يخفي "الإهتمام"  المذكور مطالبة روسيا العلنية باستسلام مقاتلي المعارضة ، ودعوتهم إلى مغادرة الغوطة ، والكف عن "التمترس بالسكان المدنيين والجرحى والمرضى منهم" . وقد عبرت روسيا عن مطلبها الصريح هذا بالملاحظة الأساسية ، التي رفعتها بوجه النص الأساسي لمشروع القرار الكويتي السويدي ، ووصفته بأنه "غير واقعي" .

في مقابلة اجرتها إذاعة "الحرة" ، الناطقة بالروسية ، مع أحد الصحافيين الأميركيين ، قال خلالها ان "الواقع" ، الذي تقصده روسيا يختلف عن الواقع ، الذي يراه العالم بأسره ، من آلام بشرية وعذابات ودمار . روسيا لا ترى في الواقع سوى عملية ناجحة جداً ، تخوضها ضد حصن الثوار الأخير في منطقة ملتصقة بالعاصمة دمشق . وهي غير مهتمة مطلقاً بتمرير قرار مجلس الأمن "غير الواقعي " برأيها ، لأنه لا يعكس الأولويات الروسية ، والتي على رأسها إنقاذ نظام الأسد . ولدى روسيا كل الحق ، برأيه ، في اعتبار مقاربتها للوضع السوري مقاربة ناجحة . قبل أن تتدخل روسيا في النزاع السوري ، كانوا في الغرب وفي العالم العربي يعتبرون أن أيام الأسد معدودة . لكن روسيا تمكنت من كسر هذا التصور ، وأخرجت الثوار من الجزء الأكبر من الأراضي السورية، التي كانوا يسيطرون عليها. ومهما بدا الأمر مستغرباً ، إلا أن بوتين يعتبر أن سياسته في سوريا هي سياسة سلمية ، ولا يرغب في أن يتقاسم مع الغرب أكاليل الغار ، التي يستحقها ، خاصة عشية الإنتخابات الرئاسية في روسيا ، على قول الرجل .

قد لا نتفق كلياً مع استنتاجات هذا الصحافي الأميركي من "The National Interest"، إلا أن استنتاجاته تتفق تماماً مع ما تكتبه وسائل الإعلام الروسية من أنه ليس لدى الغرب إمكانية التأثير على مصير الغوطة ، وأن الحملة العالمية الراهنة من الإحتجاجات على الدمار والمجازر فيها ، تهدف إلى حرمان روسيا والنظام السوري من انتصاراتهم . فقد كتبت صحيفة الكرملين "vzgliad" مقالة تحت عنوان ("المجزرة" الجديدة في سوريا مرتبطة مباشرة بنجاحات جيش الأسد) . الصحيفة لا تعترف بوجود مجزرة  ، أساساً ، ووضعت الكلمة بين مزدوجين ، وقالت ، بأن الغرب اختار حجة جديدة لسوق الإتهامات ضد روسيا بسبب الأحداث السورية . وقد جرى هذه المرة استغلال الأحداث في الغوطة الشرقية ، حيث تدور في الفترة الأخيرة عمليات عسكرية عنيفة جداً. ونقلت عن الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف قوله ، بان الوضع يتحمل مسؤوليته أولئك ، الذين يساندون الإرهابيين ، كما في السابق ، وليست لا روسيا ولا سوريا ولا إيران من ضمن هذه الفئة من الدول ، لأنها هي بالذات من يخوض على الأرض مواجهة حاسمة مع الإرهابيين في سوريا .

نعم ، روسيا ليست على استعداد للمساومة على الصورة ، التي دخلت فيها إلى المقتلة السورية . فقد جاءت روسيا إلى سوريا وهي تحمل شهادة "تفوق في الحرب على الإرهاب" ، حصلت عليها من ضحايا حروبها في الشيشان وتدمير عاصمتها، ومن قتلى أطفال مدرسة بيسلان ، ومن ضحايا كيماوي مسرح موسكو. ولذا هي لا تطيق التهويل عليها بضحايا في صفوف المدنيين وبدمار مدارس ومستشفيات ومساكن ، حين تكون منهمكة في "معاركها ضد الإرهاب" . فلا تعدو هذه الضحايا وهذا الدمار من أن يكون جزءاً من الحرب الإعلامية على روسيا ، انتقاماً من "الإنتصارات" التي تحققها.

تلتزم روسيا في "الحرب على الإرهاب" ، معايير خاصة بها ، ليس مقدراً للعالم أن يعرفها ، وهي تتمحور حول القضاء على "الهدف" بغض النظر عن الثمن مقابل ذلك . وحتى لو كانت روسيا هي من يدفع هذا الثمن ، فهي لا تتوقف عند تفاصيله ، فهي لا تحصي قتلاها ، بل تحتسب انتصاراتها في إعلاء شأن هيبتها و"عظمتها" ، ولذا لا تطيق أن يتطاول البعض على انتصارات هذه الهيبة و"العظمة" باسم أطفال يقتلون ومستشفيات تدمّر في "غوطة" ما في سوريا ما .




increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها