السبت 2018/02/17

آخر تحديث: 08:15 (بيروت)

لا تضربني كسرت الخيزرانة

السبت 2018/02/17
increase حجم الخط decrease

 لقد طال شقاء تدريبي، وفاض بي ومليت. صار امتحاني كندي المزاج والمذهب، فقد استغرقت حولا كاملا حتى صرت مؤهلاً للفحص، والسبب أني أهدرت في مدرسة صاحبها مغربي عشر ساعات، ثم صبأت، ونصاب التأهيل هو حوالي ثلاثين ساعة، ومدربي كان تركياً أيضاً، اسمه آدم، وكان يغضب، وقيادتي تُغضب الحكيم وتجعل الحليم مجنوناً، وأهم مؤهلات المدرب هي أن يكون صبوراً على تلميذه، حتى لو كان يعاني مما عانى منه صديقنا الإيطالي العجوز الذي كان يلهث في الصيف ويزمر من قُبل ومن دُبر، وينسى، ليس بسبب الشيخوخة وإنما بسبب دوار الجغرافيا وبأس النساء.

وبدلت المدرسة، ودفعت رسوماً جديدة، والتحقت بمدرسة صاحبها تركي، ويتكلم بعربية القرآن الكريم ما شاء أن يتكلم، ويمكن التفاهم معه بالآيات الكريمة، وكان صبوراً وكريماً، وآثرني  بندى خاص.  كان يتصل بي ليسألني إن كنت جاهزاً للتدرب، فأوافق أو أعتذر، فيأتيني إلى مكان إقامتي، وكنت أعتذر دوماً: اليوم مزاجي معكر، وبعد غد الجو غائم، وبعدها السماء ممطرة، كما تقول النشرة الجوية، وأخشى أن تتزحلق السيارة على جبل الصابون. الحقيقة إنني مثل نظام بلدي كنت انتظر توازن غودو الاستراتيجي. يسمون هذا المذهب: الهرب إلى الأمام.

ماطلته سنة كاملة، قاسينا فيها آلاماً، وشهدنا مذابح كثيرة في حضن الوطن، الذي يتدفأ على الدماء. كل شهر درس واحد. حصر مدربي الجديد السيد إحسان أوغلو، الخبير، مشاكلي في القيادة، وعيوبي، وأهمها: أني لا أحترم المشاة، وكل من يركب السيارة في سوريا يحتقر المشاة، ويصيرون نمالاً في عينيه. السيارة في سوريا مثل الفياغرا، الطبقية، ثم علمني أن أحترمهم، المشاة هنا لهم فضل على الخيالة، وليس كما في سوريا، لكني بقيت أعاني من مشكلة عدم الانتباه إلى راكبي الدرجات، وأحتقرهم، وهم في حكم المشاة، وهم كثر هنا أكثر من الذباب الإلكتروني في الشبكة. وعلاج ذلك بمصطلحات السير هو "كسر رقبة"، فعند عبور المنعطفات والشوارع في ألمانيا، يجب على السائق الالتفات التفاتة كاملة، يصطدم فيها ذقنه بكتفه، ويصنع رأسه اليابس مع كتفه الطري زاوية قائمة قدرها تسعون درجة، حتى يطمئن لخلو المنعطف من الدراجات الخاطفة، التي تنبثق من رحم المجهول على حين غرة. والعيب الثاني، أني كنت أجفل من السيارات التي تظهر فجأة من الشوارع الجانبية، فأهدئ سرعتي، أو أكبحها، فتكاد السيارة تنكفئ على وجهها، وهذا كفر مروري، يتسبب بالحوادث، فيوصيني بالتزام رشاد السرعة وأهتدي بإشارة المرور، وان أسوق عن نفسي، وليس عن الآخرين، فالطريق لي. قلت في نفسي: التعليم في الكبر، كالنقش على سطح القمر.

دربني عشرات المرات على فقرة “كسر الرقبة"، لكن الأخطاء دائما من الثور الكبير، كلما وصلنا إلى منعطف يقول لي: كسر رقبة، فأقول له: كفاك سباً وشتماً يا أوغلو، جِد عبارة غير هذه، مثل: التفت من فضلك، تدوير رقبة أفندم، فك رقبة أبيه... ثم وصلت إلى أنني أحتاج إلى تركيب رقبة هيدروليك تدور حيثما دار الشرع الحنيف. ويجب إيهام الفاحص المهندس في الامتحان أنني أراقب المرايا بشكل دائم، فكل ثلاثين ثانية ينبغي على السائق المغوار النظر في المرايا الثلاث: اليمنى، واليسرى، والرأسية.  نحن في سورية نسوق سواقة "الذكر"، سواقة الثور الغاضب، الذي رأى بقرة صفراء لا شيّة فيها، فصار عقله في غرموله، وحشره الله أعمى.

فيضحك، ويقول لي: كل المهارات تأتي بالتدرب، وعندما يتقدم العمر تزداد ساعات التدريب، بما فيها كسر الرقبة، فأحاول تبرير فشلي بالقول: قد أكون أفضل لو كانت مدربتي أنثى، في سفرجل العشرينات، تروي الرضيع، وتؤوي الضجيع، فيقول: هذه مدرسة قيادة، وليس إكمال أنصاف الدين يا ناقص الدين.

وهكذا بالصبر المر، رحت أتعلم علوم كسر الرقبة، كان يختار لي أفضل الأوقات، نرتاح في الساعة بضع دقائق في استراحة، وقد يمر على زوجته، فيصحبها إلى غايتها، وزوجته تتأخر مثل كل الزوجات، الزوجات مدارس للصبر والحنظل، فنقف منتظرين نصف دينه، حتى يصحبها إلى السوق، ويكون في انتظارها كاسراً رقبته، متربصاً، فأرد له الصاع صاعين، وأقول له: كسر رقبة، فلا يكسر الرقاب سوى النساء.

فاجأني، وقال: غداً الامتحان. حاولت أن أعتذر، وقلت مزاجي معكر، ويدي مكسورة، ورقبتي كذلك، ولم نصل بعد إلى التوازن الاستراتيجي، فقال: غداً يعني غداً، لقد حكمت المحكمة حضورياً، بأنك جاهز للفحص. وكان قد اتفق معي على أن يضع لي تمثال قرد بحجم اليد، له رأس يدور في جذعه مثل كرة الزئبق، عند كل هزّة في السيارة، وكلما هبت النسائم، وناحت على الأيك الحمائم، حتى لا أنسى فضائل كسر الرقبة عند عبور المنعطفات. حاولت التوسل اليه، وضعت يدي في زناره، وقلت: ليتك تستبدل القرد بحيوان آخر أكرم منه، بالليث، بالذئب، فليكن الضبع، أحسن حيوان هو الزرافة، رقبتها أطول من الحرب السورية، ولكن ليس القرد، الزرافة حيوان العالم الحر المفضل، أرجوك.

قال: دع عنك لومي وزناري، عثرت على هذا القرد مصادفةً، ليس لك غير القرد، هذا جدُ أخلاف داروين المحترم، هذا جد العلمانيين العرب المغرمين بقرود العسكر.

وكان ثمة سبب لاختيار موعد الفحص، الذي كنت أريد تأجيله لقيام الساعة، فقد عَلِم عبر تسريب عن طريق التخاطر، أن المهندس الفاحص سيدة ألمانية رقيقة وكريمة، في سفرجل العشرينات، تروي الرضيع، وتؤوي الضجيع، فقلت: توكلنا على الله. وانشدت قول الشاعر المتنبي:

وإِذَا لَـمْ يَكُـنْ مِـنَ المَـوْتِ بُـدٌّ

فَمِـنَ العَـارِ أَنْ تَمُـوتَ جَبَـانَـا

وهكذا لبست عدة الهيجاء والحرب، وتقدمت للفحص، وكان معي سبعة طلاب موت وشهادة، كلهم من سورية المقاومة والممانعة، فجعلت أؤجل فحصي، حتى صرت الأخير زمانه، وجاء دوري في المساء، وربطت الحزام، واتبعت شروط القيادة وآدابها وأركانها وسننها كلها، والمهندسة الألمانية ورائي، والسيد إحسان إلى جانبي، والقرد من أمامي، وليس لي إلا الصبر، والقرد يقول لي مع كل هزّة: كسر رقبة، ثم أتيت بما لم يأت به الأوائل.

عبرت الوهاد والقفار، والفيافي والأقطار، وارتكبت خطأ واحداً، هو نسياني كسر الرقبة عند أحد المنعطفات، لكني تابعت وكررت غير مذمم، ثم ختمت الامتحان بعملية ركن السيارة، فأغمدتها بين سيارتين، كما يغمد السيف في القراب، وركنتها أحسن تركين. والباركينغ، كلمة أصلها عربي من بروك الناقة، ثم قالت لي السيدة الألمانية: أخطأت مرة واحدة، ولم تكسر رقبتك في حارة السرعة ثلاثين كيلو في الساعة، لكنك ناجح. ووقعت على أوراق، وقالت لي: مبارك، وصافحتني.. فهززت رأسي، ونزلت، واستغرب أوغلو فتوري وزهدي بإعلان نصر النجاح، وقال: هذه أول مرة أرى متقدماً للشهادة، يقابل إعلان النجاح ببرود، الآخرون عانقوني، وبعضهم سقط من الفرح.

فقلت له: يا سيد أوغلو، والذي برأ النسمة، وفلق الحب والنوى، السيارة، وألمانيا بحضارتها، وصناعاتها، وشوارعها، وإناث حوت العنبر الجميلات، لا تعادل عندي جناح بعوضة.

وأدرت ظهري من غير وداع، كما يفعل رامبو بعد كل عملية حربية في أفلامه الخرعاء، الشهادة عندي عضة "كوساية". تركت السيد أوغلو مدهوشا، يقول لنفسه: ماذا جرى للرجل؟ عملت له دورة تدريب سواقة فحصل على الإشراق والنيرفانا!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب