الإثنين 2018/01/29

آخر تحديث: 15:41 (بيروت)

دولة باسيل

الإثنين 2018/01/29
دولة باسيل
رئيس التيّار الذي عمل، كغيره من القوى، على "تطييف" الحياة السياسية من باب "استعادة الحقوق"، يحلم بالدولة المدنيّة (غيتي)
increase حجم الخط decrease
الخلافات بين رئيس "التيار الوطني الحرّ"، الوزير جبران باسيل، والرئيس نبيه بري، ليست جديدة. لطالما كانت العلاقة بينهما متوترة، ولن تكون الخلافات التي نشبت بين مناصري الطرفين، على أثر "الفيديوهات" المسربة والتي أعتبر فيها الأول أن رئيس المجلس يقوم بأعمال "بلطجة"، آخر الغيث. وليس خافياً أن ما جاء على لسان الوزير باسيل، في مؤتمره الصحافي الأخير أن "لا شيء يحقّق الاستقرار غير الدولة المدنية"، ودعوته لإلغاء المذهبية السياسية، كان بمثابة التهديد المبطن للرئيس بري، الذي بحسب الشائعات، يريد الاحتفاظ بوزارة المالية للطائفة الشيعية.

بعيداً من هذا الخلاف القديم المتجدد، "حلم" التيّار الذي يرأسه باسيل، لا يقتصر على دولة مجهّزة بمترو الأنفاق وكهرباء 24/24 ومياه نظيفة..، بل يطمح إلى دولة مدنيّة أيضاً. نعم، التيّار الذي عمل منذ العام 2005 وحتى اليوم، مثل غيره من القوى السياسية، على "تطييف" الحياة السياسية من باب "استعادة الحقوق"، مشروعه "الحلم" هو بناء الدولة المدنيّة، حتى ولو كان كل ما قام به يُنافي بداهة قيام الدولة المدنيّة على مبدأ حقوق "المواطن" من خلال انتمائه إلى الدولة لا الطائفة أو أي فئة أخرى. فمن قانون اللقاء الأرثوذكسي، القائم على اقتراع كل ناخب لمرشّحي طائفته حصراً، مروراً باقتراحات القانونين "المختلط" و"التأهيلي" القائمين على اقتراع الطوائف في الجولة الأولى لمقاعدها حصراً، ووصولاً إلى "حلم انو نحكم نص بنص، ومش تلاتين بسبعين"، كما قال يوماً في خطاب له في ساحة الشهداء، يعمل تيار باسيل بجدّ على وضع حجر الأساس للدولة المدنيّة. ليس في تلك الاقتراحات والشعارات، في عرف التيار، شيء من الطائفية. فباسيل يريد ردّ الغبن عن أي طائفة، وسيكون سنيّاً مع السنّة، وشيعيّاً مع الشيعة... وبالتالي يريد "تحرير جميع اللبنانيين" كما قال في ذلك الخطاب.

استدرك باسيل في مؤتمره الصحافي أنّ دولته المدنية بعيدة المنال، كون "الأكثرية ترفض الدولة المدنية"، وبالتالي اقترح "مرحلياً إلغاء المذهبية السياسية من دون تعديل الدستور للمحافظة على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين". وهذا الكلام ليس للغمز من قناة الرئيس نبيه بري الذي يريد الاحتفاظ بوزارة المالية. ولا هو تهديد مبطّن له. ولا حتى لشد العصب المسيحي على ابواب الانتخابات. بل هو علاج "مرحلي" كي تشفى الدولة من مرضها الطائفي عبر الانتقال من المذهبيّة إلى الطائفيّة ثم المدنيّة، وهكذا دواليك. أي أنه لأخذ العِبرة من القول اليساري الشائع "التراكم الكمّي يؤدّي إلى تغيير نوعي". بمعنى آخر، تراكم طائفي يُفضي إلى دولة مدنيّة. إذاً، الترياق للتخلص من "سموم" الدولة الطائفية، والوصول إلى الدولة المزعومة، هو المزيد من تطييف الحياة السياسية، من باب "المناصفة". ترياق "وداوِني بالتي كانت هي الداء". وفي هذا الإطار أيضاً يُوضَع قول باسيل عن أنّ "لبنان بلد لا يقوم إلا على التوازن والتعدّد والتنوّع". طبعاً هو توازن وتعدّد وتنوّع طائفي مسيحي- إسلامي، وليس فيه شيء من "المدني"، إلا "الحلم" البرتقالي، الذي لا نعرف كيف سيتحقّق.

كلامياً، الكل في لبنان يريد الدولة المدنية. أو أقلّه نستطيع القول إن جميع السياسيين، بمن فيهم المستفيدون من تطييف المجال العام، يعتبرون الطائفية علّة العلل. حتى من غمز باسيل من قناتهم في كلامه، ردوا بأنهم يريدون الدولة المدنيّة. الأحزاب كلها، حتى تلك الغارقة في الطائفية من رأسها حتى أخمص قدميها، تنعي الطائفية السياسية. كلها يُطالب بتطبيق الدستور، لا سيّما المادة 95 منه. فمن يقف حائلاً دون بناء تلك الدولة المزعومة، إذاً؟ أين هي تلك "الأكثرية التي ترفض الدولة المدنيّة"، والتي حالت دون مضيّ التيار في "طرحه الدائم" لبناء الدولة "الحلم" وجعلته يستبدلها "مرحلياً" بالدولة اللامذهبيّة؟ لا نعرف، إلا إذا اعتبرنا أنها "المجتمع المدني"!

لكن التناقض الذي يقع فيه تيّار باسيل في خطابه المدني-الطائفي، وتناقض شعار "الاصلاح والتغيير" مع التطبيق العملي في معظم الملفات والوزارات، ليس غريباً على الساحة السياسية اللبنانية. لقد اعتاد التيار، السباحة في المستنقع اللبناني، مثله مثل بقيّة الأحزاب السياسية. إذ استبدل التيار "الخطاب العلماني" لمرحلة ما قبل العام 2005، بخطاب "استرداد الحقوق" لتجييش الرأي العام المسيحي. وهذا هو مصير "قادة الجماعات" في الدول التي تعتمد الـPower Sharing Democracy، أي "ديموقراطية تقاسم السلطة بين الجماعات" (اللغويّة أو الدينيّة أو الإثنيّة) كنظام سياسي. فبحسب الكاتبين دونالد روثشيلد وفيليب رودير في كتاب  Power and Democracy after Civil Wars، تحتل "قيادة الجماعة" حيّزاً مهمّاً في تهدئة "الجماعة" أو إثارتها، وتسييس وتطييف و"اثننة" كافة مجالات الحيّز العام. وبعكس ما يعتقد منظّرو "الديموقراطيات التشاركية"، فإن التجارب "الإمبيرية"، بحسب الكاتبين، أظهرت أن تغيّر "القادة" عبر الزمن يفضي إلى مرحلة جديدة تُعيد فيها القيادة الجديدة النظر في الاتفاقات المعقودة مع القيادة السابقة، الأمر الذي لا يحصل غالباً بطرق سلمية ودستورية، ما يعرّض الحكم إلى عدم الاستقرار.

الملفت في طرح باسيل، استدراكه بأنّ "طرح التيّار الدائم هو الدولة المدنية، (لكن) ليس فقط في الانتخابات بل في الأحوال الشخصية". نوع من "التذاكي" اللبناني يعود بنا إلى اللعبة اللبنانية القديمة، لغة ما قبل اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975. وكي لا نستغرق في الخطاب الاسلامي لمرحلة ما قبل الحرب، حول "الحقوق" ورفع "الغبن" عن المسلمين في الوظائف العامة، لا يختلف خطاب الدولة المدنيّة المرغوبة عن الخطابات السابقة للمسلمين "المستضعفين" أو "المغبونين". الخطاب واحد، لكنه محدّث، وأخيراً ظهر في ملفات التعيينات، من المراقبين الجويّين في مطار بيروت وصولاً إلى حراس الأحراش والمحاسبين وأساتذة التعليم الرسمي. المهم في ما قاله باسيل إنه يُعيدنا إلى معادلة ما قبل الحرب. أي، في مقابل الطرح الاسلامي المتناغم مع صعود الخطاب اليساري آنذاك لإلغاء الطائفية السياسية، تصاعد الخطاب المسيحي حول علمنة الدولة. فكرة لامعة استفاد منها الجميع، وصدّروها إلى مرحلة ما بعد انتهاء الحرب. هي بمثابة "فيتو طائفي" متبادل، أو تواطؤ طائفي متبادل، كي لا يتحقق أي من الأمرين. فأمام كل استحقاق سياسي داهم، مثل نقاش قانون الانتخابات، تتصاعد نغمة إلغاء الطائفية السياسية وعلمنة الدولة. الكل يستفيد والخاسر الدائم هو "الدولة المدنية" لا سواها.

لكن بعيداً من بداهة قيام الدولة المدنية، على مبدأ فصل الدين عن الدولة وفصل السلطات، لا تقاسمها ومناصفتها، وعلى معيار الكفاءة في الوظائف العامة دون طائفة الشخص، فقط في لبنان يمكنك أن "تحلم" بالدولة المدنية ولا تجد حرجاً في دعم واحتضان من يعمل على "عسكرة" المجتمع وبناء "الدولة داخل الدولة".   
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها