الثلاثاء 2018/01/23

آخر تحديث: 00:04 (بيروت)

ماذا بقي من أردوغان؟

الثلاثاء 2018/01/23
ماذا بقي من أردوغان؟
increase حجم الخط decrease

عندما تأسس حزب العدالة والتنمية التركي عام 2001 بدا كأنه إجابة عن أسئلة إقليمية، فوق كونه حلاً لمعضلة صراع الإسلاميين مع العسكر في تركيا. الحزب ذو الصبغة الإسلامية قُدّم بوصفه حزباً يقبل بالتلازم بين الديموقراطية والعلمانية، ولا يهدد على غرار أحزاب إسلامية أخرى بفرض نمط أيديولوجي معين على الدولة والمجتمع، فضلاً عن أن القاعدة الاقتصادية الصاعدة التي دعمت الحزب لا تتناسب طموحاتها مع الانغلاق الأيديولوجي.

إذا استرجعنا أدبيات تلك الفترة فسنرى حجم المدائح الذي نالته تجربة الحزب عربياً، حتى من أقلام تُعرف بعدائها للإسلام السياسي العربي، إذ كانت تلك الأقلام تشير إلى مسار التطور المطلوب عربياً. بل كان النموذج التركي، الذي وُضع في سياق واحد مع النموذج الماليزي، بمثابة الدليل الإقليمي مقارنة بحكم الملالي في طهران. هذه الحفاوة تشير إلى مشكلة مزمنة، أبطالها المباشرون هم العسكر والإسلاميون، مع شيوع عدم الرضا عن الطرفين في المحصلة، وإن مالت الكفة هنا أو هناك بحسب الظروف.

دولياً أيضاً أتت تجربة الحزب، الذي أُعلن عن تشكيله قبل أسابيع من أحداث 11 سبتمبر، بمثابة هدية للغرب المتلهف إلى بديل عن الإرهاب الإسلامي. الإدارة الأمريكية سارعت إلى إقامة علاقات جيدة مع حكومة حزب العدالة، وشجعت الاتحاد الأوروبي على المضي قدماً في مشروع ضم تركيا إليه، ولا شك في أنها من خلال علاقاتها التقليدية بالجيش التركي قد لجمت بعض ضباطه الكبار عن محاولة الانقلاب على عدوهم المعتاد. في المقابل أفصح حزب العدالة عن طموح أكبر من سابقيه من أجل دخول تركيا إلى المنظومة الأوروبية، مع ما يتطلبه ذلك من التزامات تتعلق بحقوق الإنسان، وهذا استدعى انفتاحاً خجولاً على بعض ما في التاريخ مثل مجازر الأرمن، وانفتاحاً أكبر على القضية الكردية في تركيا، حيث بدأت مفاوضات فعلية وجادة مع زعيم حزب العمال المسجون، ما بشّر بحل ديموقراطي للقضية، وأثار حتى في الأوساط الكردية نقاشات عن فوائد البقاء في بلد شريك لأوروبا مقارنة بحلم الانفصال عنه. وفي موازاة الانفتاح على الغرب لقي الخطاب الإسلامي المنفتح على الجوار ترحيباً، بسبب تركيزه على الدين كعامل ثقافي مشترك لا كأيديولوجيا، فضلاً عن كونه يحقق مصلحة اقتصادية لذئاب الأناضول الصاعدة.

لشخص أردوغان مكانة محورية في كل ما سبق، فهو زعيم الحزب الجديد، وهو القادم من نزاع صاخب مع العسكر، على رغم تعرض عبدالله غل أيضاً لتجربة السجن في عهد حكم الجنرال كنعان إيفرن. وبينما يتخلف أردوغان عن غل في المستوى الأكاديمي، حيث يتشاركان دراسة الاقتصاد، فهو ربما قد اكتسب من ماضيه كلاعب كرة قدم حساسية التعامل مع الجمهور، وكان لخطابه الشعبوي أثر كبير في ازدياد شعبية الحزب، بالمقارنة مع خطاب أكثر هدوءاً لعبدالله غل وخطاب أكثر نخبوية لأحمد داود أوغلو.

بالطبع يستحيل القول أن اليوم ابن الأمس، فشخصيات أساسية في الحزب مثل عبدالله غل وأحمد داود أوغلو قد أُقصيت عنه لصالح آخرين يدينون أولاً بالولاء لأردوغان وطموحاته، بل هناك من يطرح اسم عبدالله غل كممثل للمعارضة لينافس أردوغان في انتخابات الرئاسة القادمة. أيضاً النظام السياسي التركي لم يعد نفسه النظام الذي تسلمه حزب العدالة، إذ أُدخل إليه التعديل الأول الذي نص على انتخاب الرئيس بالاقتراع الشعبي، تمهيداً للتعديل الذي جعله نظاماً رئاسياً يرضي طموحات الرئيس الحالي. العلاقات التركية الخارجية لا تذكّر إطلاقاً بالذروة التي بلغتها قبل اندلاع الربيع العربي، وأحمد داود أوغلو صاحب نظرية "صفر مشاكل" أُرغم على ترك رئاسة الحزب والحكومة لمصلحة تصورات أردوغان. وبينما تتأرجح العلاقات مع دول الجوار صعوداً وهبوطاً انحدرت العلاقة بالغرب إلى أدنى مستوياتها ربما منذ انضمام تركيا إلى حلف الناتو، وعلى نحو متواتر يخرج أردوغان بنفسه لينتقد الغرب بشدة، سواء أكان الغرب الأمريكي أو الأوروبي أو منظومة الناتو.

في كل ما سبق قد يكون ثمة ما هو اضطراري بحكم غليان المنطقة واحتدام الصراعات فيها، بخاصة الصراع في سوريا وعليها وما استتبعه أحياناً من محاولات تحجيم الدور التركي. لكن ذلك لم يخرج أيضاً عما ظهر في بداية الربيع العربي من انتعاش قوى الإسلام السياسي، ومن رغبة القيادة التركية في ركوب الموجة واستثمارها، من دون وجود نية في تقديم نفسها نموذجاً للاعتدال كما كان الأمر من قبل، ولعل هذا ما تجلى مثلاً في الافتراق الواضح بين الأردوغانية والإسلام السياسي المشرقي من جهة وحركة النهضة التونسية من جهة أخرى.

قضايا مثل تراجع منسوب الحريات في تركيا، بما فيها الحريات الإعلامية، والتدهور التام على صعيد معالجة القضية الكردية، فضلاً عن التراجع الاقتصادي والتدني المتواصل في قيمة صرف الليرة قياساً إلى العملات الأخرى؛ هذه جميعاً بمثابة رزمة واحدة يمكن وضعها في الكفة المقابلة لإنجازات حزب العدالة في بداية صعوده. وضع الحزب نفسه يشرح هذا التحول، فاليوم بالكاد نجد حديثاً عن تجربة الحزب كما كان الأمر في السنوات الأولى، ويكاد اسم أردوغان يختصر كل الكلام فهو رئيس الحزب ورئيس الجمهورية والناطق الفعلي باسم الاثنين، بينما لا تُرى إلى جانبه شخصيات ذات وزن تعوّض الذين جرى إقصاؤهم. بقاء الحزب في السلطة أو نجاح أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة لن يكون على قاعدة الزخم الجديد الذي قدمه للحياة السياسية، وإنما على قاعدة التدهور في الحياة السياسية عموماً والتحالف مع القوميين المتطرفين.

في مجمل هذه التغيرات ثمة فرص مضيّعة لتركيا وللإقليم وربما أبعد منهما، منها فرصة المصالحة بين الإسلام السياسي والديموقراطية والعلمانية، وفرصة المصالحة بين الغرب والشرق عبر جسر البوسفور، وفرصة حل ديموقراطي للقضية الكردية في تركيا يكون نموذجاً لدول الجوار. طموح أردوغان الشخصي كان له دور مؤثر في إهدار هذه الفرص، ولعل ذلك بلغ ذروته في ما حدث بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، وكأنه يقول: أنا الأجدر بالانقلاب على نفسي!  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها