الثلاثاء 2017/09/05

آخر تحديث: 06:30 (بيروت)

فوائض المشروع الإسلامي

الثلاثاء 2017/09/05
increase حجم الخط decrease

حين نشر الداعية عمرو خالد، في صفحته في فايسبوك، قبل أيام، مقطعاً مصوراً له أثناء أدائه لمناسك الحج، وهو يدعو لمتابعيه، كانت ردود الأفعال الغاضبة والمغرقة في سخريتها، علامة أخرى على استنفاد مشروعه الدعوي لطاقاته، وتبدد الهالة التي كانت تحيط به. في مطلع الألفية، بدأ المحاسب الشاب، مسيرته الدعوية من نادي الصيد، قبل أن يصبح، في خلال أقل من عقد واحد، من أكثر الشخصيات تأثيراً في مصر والعالم الإسلامي بل والعالم، بحسب مجلة "تايم" الأميركية (2007)، ومجلة "فورين بوليسي" (2008). لم يكن النجاح الاستثنائي لمسيرة عمرو خالد، مقترناً بالضرورة بمغادرة حقبة التسعينات، والفراغ الذي خلفه رحيل الشيخ متولي الشعراوي، وتواري الدكتور مصطفى محمود عن الأضواء. فبالرغم من أن خالد شكّل امتداداً لتراث نجوم الإسلام التلفزيوني المدجن، ووريثاً لتجاربها، فإن مشروعه اقترن بسياقات سياسية واجتماعية أوسع وأعمق تأثيراً.

فغير حالة الركود الاجتماعي والبلادة السياسية التي استحكمت بنهاية التسعينات، كان وصول عملية أسلمة المجتمع إلى ذروتها، سواء عبر هيمنة خطاب "الإخوان" على الطبقة المتوسطة ومؤسساتها المهنية في الحضر والريف، أو توسع الخطاب السلفي في الأحياء الحضرية الأكثر تهميشاً والمحافظات الأبعد من العاصمة، فإن هيمنة المشروع الإسلامي كانت في حاجة إلى منافذ لتفريغ فوائض قيمتها، ونطاقات جديدة للتوسع. لم يكن الأمر مجرد إنتاج لخطاب دعوي ذي نكهة برجوازية، وقادر على اجتذاب الطبقات العليا من المجتمع واستكمال عملية الأسلمة التي بدأت من أسفل، بالصعود إلى قمة الهرم الاجتماعي. فالتسارع في عمليات إعادة الهيكلة الرأسمالية للاقتصاد المصري، والبحبوحة الاقتصادية النسبية التي تمتعت بها شرائح من الطبقة المتوسطة في نهاية التسعينات، وعمليات الصعود الطبقي السريعة لتلك الشرائح، اقترنت بتشكّل قيم وانساق معيشية لها صيغ نيوليبرالية معولمة، وبالتالي فرضت الحاجة إلى خطابات روحية وإمكانات للفعل الاجتماعي لإشباعها. هكذا، فإن مشروع خالد الدعوي، الذي لم يقتصر على الوعد بالخلاص الفردي والأخروي في إستلهامه لعناوين "رحلة السعادة" و "صنّاع الحياة" و"بكره أحلى" وغيرها، قدّم خياراً لطبقات صاعدة تبحث عن مزاوجة حاجتها الروحية مع الاحتفاء بالتحقق المهني والتمتع بمنجزات الحداثة وقيم الاستهلاك الرأسمالي. وفي مقابل خطابات الإسلام السياسي، الراديكالية والإصلاحية، والتي حتّمت صداماً مع الأنظمة الحاكمة أو المنافسة لها، فإن خطاب عمرو خالد نجح في صياغة معادلة للإصلاح، تبدأ من الفرد، "إصلاح القلوب" و"حتى يغيروا ما بأنفسهم"، لتنطلق إلى أخلاقيات المجتمع ككل، وسد حاجاته، عبر العمل الأهلي والتطوعي، منزوع السياسة، ومن دون المخاطرة بصِدام مع الدولة.

كان إستبدال الجينز بالجلباب، والذقن الحليقة باللحية، واللهجة العامية بالفصحى التراثية، وتلفزيون الواقع بمنبر المسجد، إلى جانب طرح الحياة بدلاً من الآخرة كهدف، والمستقبل كنطاق زمني لتحقق السعادة بدلاً من الماضي، والقلب والأسرة بدلاً من الدولة، لحضور "الجنة التي في بيوتنا".. كلها كانت كافية لاستقطاب أمزجة أجيال أكثر حيوية وطموحاً وتواصلاً مع العالم، ولسد حاجات بحثها عن دور اجتماعي آمن، يزاوج تحققها الفردي بتحققها على المستوى العام. وبالرغم مما كفلته تلك الصيغة العصرية من الخطاب الإسلامي من تدجين لطاقات الطبقات البرجوازية السياسية وتصريفها في جهاد النفس والعمل الخيري، ومن طرح خطاب منافس يسحب من رصيد خطابات أكثر صدامية لجماعات الإسلام السياسي، فإن إدراك نظام حسني مبارك، الغريزي، للإمكانات السياسية المتضمنة في مشروع خالد، وكذا توجسه الدائم من أي فعل له صيغة العمل العام، بالإضافة إلى شبهات حول علاقة الداعية الشاب بجماعة الإخوان المسلمين، على الأقل في الماضي، انتهت باستهداف الدولة له ولمشروعاته، ومن ثم اضطراره لمغادرة البلاد مرتين في العامين 2004 و2009.

لكن، وإن كان إبعاد خالد عن مصر، والذي تزامن مع صعود نجوم بالعشرات من الدعاة التلفزيونيين الذي استلهموا صيغة خطابه المعصرن من دون جانبه الاجتماعي، قد تسبب في تداعي نجوميته، فإن لاندلاع ثورة يناير الأثر الأكبر في تجاوزه. ومع محاولة خالد اللحاق بالمتغيرات المتسارعة في مصر، واستثمار رصيده الجماهيري سياسياً، بعد الثورة، مرة بإعلانه تأسيس حزب سياسي "مصر المستقبل" العام 2012، ومرات باستضافة أعضاء من المجلس العسكري الحاكم في برنامجه "بكره أحلى"، ولاحقاً بحضوره اجتماع الرئيس محمد مرسي مع القوى الوطنية حول أزمة سد النهضة العام 2013، فإن التورط السياسي المباشر لخالد كان الضربة الأخيرة لمشروعه.

فمن جانب، جاءت محاولة تطعيم عمله الدعوي بالسياسة، سبباً لتنفير قطاع غير قليل من الجمهور الذي كان جوهر انجذابه إلى مشروعه، في الماضي، هو تحرره من مخاطرة السياسة وتبعاتها. ومن جانب آخر، فإن وصول جماعة الإخوان أخيراً إلى الحكم، والصعود السياسي السريع للأحزاب السلفية، لم يترك لمحاولته السياسية فرصة لمنافسة خطاب إسلامي راسخ يتمتع ببنية مؤسسية تاريخية عريقة وقواعد شعبية شديدة الولاء، ولا مكان أو جدوى لمشاريعه التطوعية والخيرية لإصلاح المجتمع من أسفل، في ظل تحقق وعد هيمنة الإسلام السياسي على الدولة نفسها، وبالتالي إصلاح المجتمع من أعلى. وبالإضافة إلى هذا كله، فإن الحراك السياسي الكثيف عقب الثورة، فتح الأفق أمام صيغ لبدائل سياسية وثقافية واجتماعية عديدة لإشباع الحاجات والطموحات والطاقات الفردية والجماعية للشرائح التي كانت تجد في خطاب خالد بديلاً مناسباً في ظل حالة الخواء القيمي والركود السياسي المستحكمة قبلها.

يستدعي مشهد خالد الأخير، وهو يرفع يديه بالدعاء متوسلاً نقرات الإعجاب من متابعيه في فايسبوك، مزيجاً من الشفقة والنفور، والكثير من خيبه الأمل، ليس من أجل مشروعه التلفيقي وتداعيه، بل لانغلاق كل منافذ الأمل أمام تلك الطاقات الفردية وإمكانية إشباع الحاجات القيمية الممزوجة بطموح جماعي لإصلاح العالم، بعد انهيار مشروع الإسلام السياسي على محك التحقق من ناحية، وعودة السلطوية السياسية في أقسى صورها من ناحية أخرى.

يبقى لنا من مشروع خالد، تلك الدروس التي يمكن تدبرها من فطنة صاحبها، والتي استهلكت نفسها، وإدراكه لحاجة الفرد للتحقق على المستوي الجمعي، وحقيقة أن كل مشروع للفعل العام، وحتى ولو تجاوز السياسة عمداً، محكوم بالوقوع في نطاقها. فالعام مع الفردي سياسياً لا محالة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها