السبت 2017/09/30

آخر تحديث: 07:57 (بيروت)

ألوان من السَّبْي

السبت 2017/09/30
increase حجم الخط decrease

سَّبْيُ دمشق غير سَّبْيُ بابل..

التقيت وصديقي نوري، مصادفةً، بالغلام عبد الجليل في محطة بنزين، قريباً من السوبر ماركت، فعانقته، وسألته عن أحواله، وعن غيابه الطويل، وكان قد اختفى، وكبر قليلاً، وما تزال في وجهه تلك البثور، التي تفور تحت نار الشباب. دعوته إلى قهوة، وكان السوق كبيراً، وبه مطعم ومقهى، لكنه اعتذر، وبدا متردداً، وخجولاً كعادته، فسألته عن اختفائه، وتبادلنا أنا ونوري نظرات الاستغراب من زيّه الفاخر، والسلسلة التي تتدلى من عنقه.

فقال إنه ينتظر "مولاته"، فهي تشرف على إصلاح عطل في مصباح السيارة الأمامي في مركز الصيانة، فهم يحتاجون المصباح في عبور الأنفاق، وإنه سيغادر بصحبتها خلال لحظات، فهو رهن إشارتها!

وبدا كعادته، وكأنه استيقظ لتوه من النوم، وجهه يطفح ببثور حبِّ الشباب، وقال بأنه بخير، لكنه ممنوع من رؤية أهله.

ما هي حكاية مولاتك؟ أنت تحكي وكأنك في فيلم تاريخي، وليس في ألمانيا؟

أخبرنا بحكايته، ونحن وقوف، قال إنه شبه مملوك، إنه مسبيّ، وقال: إنّ سيدات ألمانيات، كن يأتين إلى المخيم، وينتخبن شباناً قاصرين، في مثل سنّي، تحت الثامنة عشرة، دون سن البلوغ الألماني، ويأخذونهن. وجاءت سيدة للغاية نفسها، وشاع الخبر في المخيم أنها تبحث عن غلام، فأرسلتني أمي، وقالت: اذهب لعل الله يحدث أمراً، وكان سوء الحال والضيق قد بلغ بنا مبلغاً، والانتظار في المخيم، جعلنا جميعاً نكفر بالساعة التي عبرنا البراري والغابات والبحار إلى ألمانيا، فأشرت لأمي إلى شكلي الوحشي معتذراَ، فشفتاي غليظتان، وحبوب الشباب تملأ وجهي، وجفوني سمكية، تجعلني أبدو وكأني استيقظت تواً من النوم، لكنّ القرد بعين أمه غزال، قالت أمي، إنك لا تدرك قيمة شبابك. وفعلاً قصدت مكتب المشرف على المخيم "الهاوس مايستر"، وكانت السيدة تدخن، وقد تداعى إليها فتيان سوريون وأفغان، طمعاً في فرصة، وما إن رأتني حتى هشّتْ وبشّتْ، ونهضتْ، وقالت لمدير المخيم، إنها وجدت بغيتها، فوقعنا عقداً، ثم ودّعت أمي وإخوتي، وسافرت معها إلى بلدتها البعيدة، وعندما وصلت، وجدت دارها فارهة، وكان أول ما عملته هو أني قصدت الحمام، فوجدت السيدة، واسمها دانييلا، تدق الباب،وتعرض علي مساعدتي في الاستحمام، ولأني خجول وافقت.

هنا تدخل صديقي نوري: خجل.. غريب.. وحاول أن يستجلي أسرار معارك الحمام، والتنفس تحت الماء.

لكن عبد الجليل أغضى.

قال: وهكذا منذ أكثر من سنة، أعيش مع دانييلا في حوض الحمام، حتى نبتتْ لي غلاصم، السيدة تحبُّ الرياضة والسفر، وعملها في بيتها، سافرنا إلى جزر الكناري، والفلبين، والهند، أظنُّ أني سعيد، لكني محروم من أهلي وأصدقائي.

كنت قد قرأت تحقيقاً صحافياً مترجماً في صحيفة سويسرية، عن سيدات شبقات، يقصدن المخيمات لاصطفاء أجمل الشباب، من أجل المتعة. وكان السبي ناعماً، بالإغراء. وأكثر التعليقات تحت المقال تقترح على الشباب الهرب.

قلت له: لم لا تهرب؟

قال: أتواصل مع أصدقاء بالوتساب، وقد نصحوني بهذه النصيحة، لكني اعتدت على البذخ والترف، وسأخسر كل شيء، وأهلي ما يزالون في المخيم.

قال نوري غامزاً: اعتدت على البذخ والترف و..؟

ولم يكن عبد الجليل وحده مسبياً، فحال بلدياتنا رشيد، مثل حال عبد الجليل، وكان قد وجد شقة للأجرة، وقد اشترطت عليه المؤجرة شرطاً غريباً، وقبل به، وهو مرافقتها إلى الكنيسة كل أحد، لكنه ملَّ بسرعة، فهو يصاب بالاكتئاب من الكنيسة الموحشة، والتي لا يرتادها سوى بضعة عجائز، وكانت السيدة المؤجرة تأمل في هدايته لدين المسيحية، وهو يحاول أن يهتدي إلى شقة جديدة، كي ينال حريته.

اللون الثالث من السبي هو الشائع، وهو أطفال الحرب السورية، وهم أيتام تتبناهم أسر ألمانية، وقد طالبتْ سيدة سورية، مقيمة في تركيا، ألمانيا بإعادة ابنها إليها، وقد بث التلفزيون الألماني تقريراً حول تبني أسرة ألمانية تتألف من عجوز وزوجته، لاجئاً أفغانياً، وأبدو سعادتهم بالتجربة، وكان الصبي الأفغاني في التقرير التلفزيوني يمسّد بيده وبر الكلب الضخم، ويبدي سعادته  بالعيش في الأسرة الجديدة.

يقال إن الثقافة تنشأ بسبب الحروب، وإن الحروب هي أم العلوم.

ظهرت السيدة الألمانية، مولاة عبد الجليل، ونادته ، وكان اسمه قد صار جو، وضبطته معنا، فهرع إليها وهو يلوح بيده مودعاً، فنظر إليَّ نوري، ووصف السيدة الألمانية، التي قدرتُ عمرها في الخامسة والأربعين، بأنها "ضرب"، وضرب وصف جنسي، وتذكرت فيلم  السيدة داوبتفاير الكوميدي (بالإنجليزية: Mrs. Doubtfire) من بطولة النجم روبن وليامز، ويروي قصة انفصال دانيال هيلارد عن زوجته، وحيازتها على حق حضانة الأطفال، فلا يجد من سبيل لرؤية أطفاله غير التنكر في شخصية مدبرة منزل، فيعمل لدى العائلة متنكراً، حتى يستطيع رؤية أطفاله والتقرب منهم، ويطلب من شقيقه فرانك، الذي يعمل في فنون التجميل، أن يساعده في تنكره لتحقيق مراده، وأمنيته الوحيدة، ويحاول جاهداً إبعاد عشيق زوجته، بالمقالب الكوميدية، عن أسرته التي تعب في إنجابها وبنائها، ويصف عشيق زوجته بأنه مثل طائر الوقواق.

قال نوري، وهو يحدق في السيدة الوقواق، وكرّر متأوهاً بحسرة: ضرب.

قلت من يدري: قد يصير جو "عزيز" ألمانيا.

وأبدى استغرابه من إعجابها "بجو"، فقلت: لله في خلقه شؤون. وتابعنا جو وهو يركب السيارة، ويعود إلى حمام السباحة.

زفر نوري، وقال: أحلى عبودية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب