الثلاثاء 2017/09/26

آخر تحديث: 10:54 (بيروت)

قوس قزح.. الرمزي والمادي

الثلاثاء 2017/09/26
increase حجم الخط decrease
تقدمت الكتلة البرلمانية لـ"حزب النور" السلفي بطلب إحاطة لرئيس البرلمان المصري، موجَّهاً إلى رئيس الوزراء ووزير الثقافة، بشأن رفع "عَلَم قوس قزح" خلال حفلة لفرقة "مشروع ليلى" في القاهرة. ولم يكن اعتراض ممثل الكتلة، النائب محمد صلاح خليفة، محصوراً في "قيام مجموعات من الشواذ جنسياً برفع أعلامهم بشكل علني ومستفز"، بحسب تعبيره، بل وذهب أيضاً إلى استنكار الترخيص لحفلة غنائية "يشارك فيها الشباب والفتيات" بالأساس. أما عن منتسبي مؤسسة الأزهر، فإن الشيخ محمد الأزهري، عضو هيئة التدريس بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، لخّص الأمر في تعلقيه على واقعة قوس قزح، بقوله أن "النبي قال..اقتلوا الفاعل والمفعول". وفي ما يخص وزارة الأوقاف، فإن مستشارها الشيخ صبري عبادة، أحال نبذه للأمر إلى مستويات متعددة: فهو منافٍ للطبيعة أولاً، وعمل شيطاني من الكبائر ثانياً، ومتعارض مع تقاليد المجتمع المصري ثالثاً، "فليس من عادات المصريين رفع علم المثليين"، وانتهى إلى التشديد على أن الأمر هو غزو فكري لتغيير هوية وثقافة المصريين. وإلى جانب هؤلاء جميعاً، أعرب عاملون في مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري، عن غضبهم، بعد ساعات من حادثة العلَم، بعدما تبينوا أن الشعار الجديد للقنوات المحلية في التلفزيون المصري، والذي تم اختياره قبل ثلاثة أشهر، يشبه كثيراً ألوان قوس قزح، فطالبوا بتغييره.

لا تخفف اعتيادية ردود الأفعال أو توقعها، من هَولها. فأحد منتسبي الأزهر وهيئته الجامعية، يدعو ويحرض على القتل علانية، وعلى شاشات التلفزيون، فيما تتصاعد حالة التوجس والهلع بسبب الواقعة، بدءاً من الدعوة لمنع الاختلاط في الحفلات الغنائية، مروراً بالتحذير من "الغزو" و"الانقضاض على المجتمعات"، وصولاً إلى حالة من الضلالات المرَضية تتعلق بكل ما تتشابه ألوانه مع قوس قزح. لكن كيف لرفع علَم ملون خلال حفلة موسيقية، لبضع دقائق، أن يثير كل هذا الحنق، ويُعد خرقاً لناموس الطبيعة، وتهديداً لهوية المجتمع، وإنذاراً بالغزو الثقافي؟ لا يمكننا تسفيه الأمر، ولا ردود الأفعال عليه، ولا يمكن الاكتفاء بتنسيبه إلى رُهاب المثلية، فالأعلام وألوانها ليست بالأمر الهين. العلَم، وهو أحد أكثر التمثلات وضوحاً وفجاجة على رمزية مؤسسات الدولة الحديثة وطقسية دعائمها، صوّر لنا دائماً بوصفه جديراً بالموت، ليس فداءً لما يمثله فحسب، بل وبالتضحية بالذات لأجله هو نفسه. مَشاهد الأفلام وخيالها البطولي عن الجنود الذين يُقتلون وهم يتمسكون بزرع العلم في أرض المعركة، ويسقطون واحداً بعد الآخر حتى تظل رايتهم منتصبة، تعززها طوابير تحيته كل صباح في المدارس، وشاراته المرفرفة فوق مباني مؤسسات السلطة ورموزها، وكذا عيد سنوي للاحتفال به.

في مطلع التسعينات كانت واقعة حرق علم أميركي في ولاية تكساس، سبباً في إعادة النظر في تفسير نصوص حماية حرية التعبير في الدستور الأميركي. فمحكمة الولاية التي عاقبت جريمة الحرق بالسجن، رأت في العلَم شبه قداسة، ووضعته فوق الحرية والدستور والحق في التعبير، وانتهى الأمر بجدل قانوني فيدرالي طويل حول ما هو أكثر تعقيداً وضحالة من هذا كله، أي حول ماهية العلَم، أو ما الذي يمكن اعتباره علَماً. سؤال، على بساطته، يظل عصياً على الإجابة. فالعلَم ليس مجرد رمز، أو شارة هوياتية أو تلخيص لتاريخ من التبدلات والانتصارات والهزائم، بل هو في ذاته، وبرفعه، فعل للسلطة أو المقاومة، وإعلان لهوية ما وفرضها، وبسط لهيمنة بعينها، يضمنها الوجود المادي والمباشر للعلَم.

تلك العلاقة المراوغة بين الرمزي والمادي، ربما تكون كافية لتفسير كل هذا اللغط حول واقعة حفلة "مشروع ليلى". فهؤلاء من انتفضوا على وقعها، يدركون أن الأمر يتجاوز إشكالية "المجاهرة"، بل يتجلّى في انتقال المثلية الجنسية من مسألة فردية، أي ميل جنسي وممارسة شخصية، إلى مسألة العام والمجتمعي والهوياتي. لكن الأفدح في نظر هؤلاء المعترضين، هو أن ذلك الانتقال، لم يأت في صيغة المطالبة بالحق في الوجود، بل تجاوزها إلى صيغه الإعلان عنه. فرفعُ العلَم هو تقرير للانتصار، المعزز بالامتلاك وفرض الهيمنة على حيز عام بعينه، وامتداداته الأبعد، المادية والمتخيلة.

ولم يتوان متعاطفون مع حقوق المثليين، أيضاً، عن انتقاد واقعة العلَم. فهذا العلَم الملوّن الذي رُفع للمرة الأولى في كاليفورنيا وصُمّم في سان فرنسيسكو، نهاية السبعينات، يبدو لهم بلا تاريخ خارج سياقه الغربي والتاريخي، ومبرراً لتهمة الغزو الثقافي، وخصماً من رصيد قضية مجتمع "الميم" في مصر. لكن، ومع وجاهة هذا الاعتراض، فإن مكمن الخطورة هو الخلط بين المادي والرمزي في واقعة رفع العلَم، وأن يبدو الرمزي كافياً، مع تجاهل لحقيقة أن قمعاً مادياً ومباشراً ضد المثليين والمختلفين جنسياً ما زال قائما وربما بصورة أشرس.

لا يمكن إنكار الدور الحاسم للأفعال الرمزية في نضالات المقاومة. فبأثر من تراكمات تلك الأفعال في مصر، بدأت لفظة "مثلية" تحل تدريجياً محل "الشذوذ" في وسائل الإعلام. وغادر الجدل، في معظمه، سؤالَ إن كانت "المثلية" جريمة تستحق العقاب، أم مرضاً يتم التعامل معه بالعزل. بل تجاوزه إلى أسئلة من نوع: لماذا لا يكتفي المثليون بممارسة ميلوهم، في حيزهم الشخصي، ويصرون على نيل الاعتراف بهم في العام أيضاً؟ كل هذه خطوات إلى الأمام، لكن ربما علينا ألا ندع غواية الرمزية تخدعنا، بالاستسلام إلى نشوتها. فرفعُ العلَم يمكن له أن يضحى انتصاراً في حالة واحدة، وهي إن كان من الممكن أن يظل مرفوعاً، أي عندما يتحول الرمزي إلى مادي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها