الأربعاء 2017/09/20

آخر تحديث: 06:39 (بيروت)

ثقوب في الذاكرة اللبنانية

الأربعاء 2017/09/20
increase حجم الخط decrease

ايلول، سبتمبر، هو في العادة الشهر الذي تتكثف فيه الذكريات اللبنانية المؤلمة، وتستعاد من دون أي أمل بالمصالحة معها ، او تصويبها، او على الاقل إستعادتها ووضعها في نصابها الصحيح..برجاء التوصل الى سردية وطنية واحدة يوما ما.

كانت وقفة التذكر والتأمل في ما جرى في مثل هذا الشهر قبل 35 عاما، مضجرة هذه السنة، لان الإنتقاء من الذاكرة ما زال مستمراً، ولأن الإستثمار كان ساذجا الى حد بدا معه ان فقدان الذاكرة تماماً، كان ولا يزال هو الخيار اللبناني الانسب.

في البدء كانت ذكرى"جمول" والنداء الشهير الذي أطلقه الامينان العامان للحزب الشيوعي الراحل جورج حاوي، ولمنظمة العمل الشيوعي محسن إبراهيم لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي الذي كان قد إغتصب بيروت.خطوة في غاية الجرأة والمسؤولية الوطنية والتاريخية. لكنها بدت في المناسبة وكأنها الخطوة الاجرأ للرجلين اللذين شكلا وجهاً مؤثراً من وجوه الهوية اللبنانية في النصف الثاني من القرن الماضي. وتكون في الذكرى هذا العام كما في الاعوام السابقة إنطباع بأن ذلك اليوم، بالذات، شهد إنطلاقة المقاومة الوطنية، التي كانت تقاتل بفخر منذ نحو عقدين من الزمن.. فيما الواقع أنه كان شاهداً على بداية نهايتها.

الرجلان التاريخيان، اللذان لم يبذلا قبل صياغة النداء الشهير، سوى الجهد الخاص (والجبّار في حينه) في إحصاء عدد المقاتلين المتاحين من الحزبين، وفي تقدير عدد البنادق المتوافرة بعد الاستباحة الاسرائيلية للبنان، كانا يواجهان تحدياً إستثنائياً يعادل مواجهة العدو المنتشر على بقعة واسعة من الارض اللبنانية،وهو أنهما إتهما من اللحظة الاولى بأنهما يبعثان من جديد الحقبة الفلسطينية ويرفضان التسليم بان القيادة العرفاتية قد إنتهت. وبناء على هذا الاتهام ، الآتي من دمشق وحلفائها اللبنانيين، بدأ إطلاق النار على الرجلين، وعلى النداء، وعلى المقاومة التي يقودانها، ولم يتوقف إلا عندما تقدم ورثة تلك المقاومة لإزاحتها والحلول محلها في فترة زمنية قصيرة لم تزد عن الثلاث سنوات.

يستحق النداء أن يدخل التاريخ بوصفه لحظة تمرد وطنية صافية، غير متصلة بأي صدى أو توجيه فلسطيني، من قبل رجلين لم ولن يفقدا أثرهما على الرغم من تصفية أحدهما، وتنحي ثانيهما، أمام زحف الصنف الجديد من المقاومين، وإدارتهم السورية والايرانية المباشرة، التي تجاوزت الى حد بعيد الادارة الفلسطينية او العرفاتية المباشرة أيضاً للعمل اللبناني المقاوم، التي كانت تسمح بالكثير الكثير من الاجتهاد والاعتراض، لاسيما من جانب أبو خالد بالذات أو الراحل ابو أنيس.

كانت لحظة تمرد وطنية بالغة الدلالة، لكنها كانت لحظة عابرة، يصح فيها انها كانت إنتقالاً بالزمن اللبناني، الذي كان قد توقف يومها عند حدثين بارزين، لم يجر تصويبهما هذا العام أيضا، وهما إغتيال الرئيس بشير الجميل، ومذابح صبرا وشاتيلا. وبدت الذاكرة اللبنانية مرة أخرى وكأنها مثقوبة، وغير قابلة للاصلاح أبداً. فمن جهة لم يكن هناك إستعداد لمراجعة تجربة الرئيس المنتخب وسياقها السياسي الداخلي المثير للجدل ومسارها الاسرائيلي والاميركي الخطر، ومن جهة أخرى لم يكن هناك إستنفار لقراءة التجربة الفلسطينية وبؤسها المقيم في لبنان،الذي كانت المذابح من مؤشراته الاولى.

في الذكريات الثلاث، التي جرى إحياؤها بتواضع شديد هذا العام، تغلبت العاطفة على العقل، وقال الجميع كلاماً ناقصاً، مموهاً، لا يفي أي غرض..سواء في تناوله نداء "جمول"، بوصفه شرارة مقاومة للعدو الاسرائيلي، ومواجهة خاطفة مع ورثة المشروع المقاوم، او في تعاطيه مع بروز وزوال أحد أمراء الحرب اللبنانية، او في مقاربته للمذابح التي سقطت من الذاكرة اللبنانية، وتكاد يسقط من الذاكرة الفلسطينية أيضاً، لأسباب معروفة ومفهومة تماماً.

لم يكن المطلوب الوقوف على أطلال تلك الذكريات البعيدة، او تجديد الاكتشاف بان الذاكرة اللبنانية ما زالت منقسمة وبعمق، وحتى بين أبناء الصف الواحد، حول ما جرى في مثل هذا الشهر منذ 35 عاماً، وحول ما يسجل من تسامح مع فكرة التطبيع مع العدو نكاية بمقاوميه الحاليين.. كان المنشود، بعض الدقة، بوصفها مؤشراً على ان الوطنية اللبنانية ليست وهماً ولا مجرد إستحالة.   

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها