في مئوية ثورتها الديموقراطية الكبرى في شباط 1917 ، تعود روسيا أدراجها إلى تلك الحقبة وتنقسم من جديد حول شخصية القيصر الروسي الأخير نقولا الثاني . وروسيا تنسجم في ذلك مع نفسها ، كما رأى الإصلاحي الروسي الكبير، ورئيس وزرائها إبان ثورة 1905 ــــــــ 1907 ، بيوتر ستاليبين ، الذي قال " كل شيئ يحدث في روسيا خلال 10 سنوات ، لكن لا شيئ يتغير فيها خلال 100 عام" . ويقول المستشرق ألكسي مالاشنكو، بأن الفكر السياسي الروسي لم يتغير منذ قرون .
روسيا منقسمة في العمق على نفسها ، منذ خريف السنة الماضية ، حول فيلم سينمائي لم يعرض في صالات السينما بعد ، بل من المتوقع أن يبدأ عرضه في أواخر شهر تشرين الأول/أوكتوبر القادم ، بعد أن تم تأجيل العرض الأول من آذار/مارس الماضي . يتحدث الفيلم عن علاقة غرامية بين القيصر المقبل نقولا الثاني ، أي حين كان لا يزال ولياً للعهد، وراقصة بالية فاتنة تدعى ماتيلدا . واعتبر الفيلم ، الذي يحمل اسم "ماتيلدا" ، تجديفاً وتطاولاً على المشاعر الدينية ، إذ أن الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية كرست القيصر نقولا الثاني أسرته ، الذين أعدمهم البلاشفة العام 1918، شهداء الكنيسة .
بدأ انقسام المجتمع الأرثوذوكسي الروسي ، من اعتراض جمعية دينية غير معروفة في القرم تحمل اسم "صليب القيصر" على شريط فيديو يصور العلاقة بين ماتيلدا وولي العهد "نيكي" (تصغير اسم نيكولاي)، كما كانت تناديه العشيقة ، تحبباً. وحملت النائب عن القرم في مجلس الدوما الروسي ناتاليا باكلونسكايا ، شكوى هذه الجمعية وصاغتها على شكل سؤال توجهت به إلى المدعي العام الروسي ، تطلب التحقق من محتوى فيلم "ماتيلدا" ، وما اذا كان يشكل إهانة لمشاعر المؤمنين الدينية . وباكلونسكايا هذه ، غير بعيدة عن طائفة (sect) ضمن الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية تدعى "القيصر القديس" ، وهي (باكلونسكايا)، التي شهدت منذ أشهر أنها رأت الزيت يرشح من تمثال نصفي للقيصر نقولا الثاني في القرم .
لكن الأمور بدأت تأخذ منحى تصعيدياً منذ مطلع السنة الحالية ، حين قامت منظمة إجتماعية ، مرخص لها تحت إسم "الدولة المسيحية ـــــــ روسيا المقدسة" ، ببعث رسائل إلى مديري صالات السينما تطلب منهم رفض عرض الفيلم "ماتيلدا" للمخرج ألكسي أوتشيتل . وتضمنت الرسائل تهديدات مباشرة ، نقلتها كافة وسائل الإعلام ، حيث ورد فيها "إذا عُرض الفيلم سوف تحترق الصالات ، وقد يلحق الأذى بالناس. إننا نعلمكم رسمياً : أي إعلان ، أو أفيش ، أو منشور يتضمن معلومات عن عرض الفيلم ، سوف يعتبر بمثابة رغبة في تحقير قديسي الكنيسة الأرثوذوكسية ، واستفزاز(لقيام) "ميدان روسي" (في إشارة إلى ساحة الثورة الأوكرانية في كييف) ، كما نقلت كافة وسائل الإعلام .
وفي آب/أغسطس الماضي تلقت دور السينما الدفعة الثانية من الرسائل ، التي كانت تتكون من 5 صفحات ، وتهدد روسيا كلها "بعواقب وخيمة" ، حيث جاء فيها ، كما ذكرت وسائل الإعلام : "إذا خرج (فيلم) "ماتيلدا" ، سوف يخرج الآلاف من أجل الحقيقة ، وخلفهم سوف يخرج الآلاف "من أجل أي شيئ" ، الآلاف من المحرضين ، الذين سيحصلون على فرصتهم ، التي ينتظرونها منذ زمن ، لتمزيق روسيا وشعبها ... سوف يبدأ المحرضون بإحراق دور السينما ، ولن يكلفهم الأمر كثيرا ... المعارضة تدفع مئات الملايين من أجل أن تبدأ الحرب ، من أجل أن تزعزع الشعب . لكن عرض"ماتيلدا" على الشاشات ، سوف يفضي إلى نتائج مرعبة لكل روسيا ... مقابل 10 ملايين روبل لا غير يمكن إحراق كل دور السينما الروسية" .
في نهاية شهر آب/أغسطس المنصرم ، هاجم مجهولون ليلاً في سانت بطرسبورغ المبنى ، الذي يقع فيه استوديو مخرج الفيلم ألكسي أوتشيتل ، وحطموا واجهة المبنى . وبعد أيام أقدم مجهولون على إحراق سيارة محامي المخرج في موسكو .
وفي صباح الرابع من الشهر الجاري ، قام أحدهم في مدينة في الأورال باقتحام صالة للسينما بشاحنة محملة ببالونات الغاز والبنزين . وكان يقود الشاحنة رجل أربعيني ، لم يعتقل في مكان الحادث ، بل تم القبض عليه ، حين ذهب بنفسه إلى المستشفى لمعالجة الحروق ، التي أصيب بها . واعترف الرجل أمام المحققين ، بأنه أتى إلى المدينة بسيارته ، التي اشتراها بنفسه لهذا الغرض ، وأمضى طيلة نهاره السابق في إحدى كنائس مدينة يكاتيرنبورغ ، عاصمة الأورال . واستنكرت بطريركية يكاتيرنبورغ ، الحادث بشدة ، ونأت بنفسها عن مرتكب الحادثة .
وزارة الثقافة الروسية ، التي تصر على عرض الفيلم ، كما الكرملين ، طلبت رسمياً من وزارة الداخلية تأمين الحماية لدور السينما ، التي لم ترفض ، حتى الآن ، عرض الفيلم . لكن محامي مخرج الفيلم يتهم الأجهزة الأمنية بتقصير متعمد ، يقول ، بأن هذه الأجهزة تعرف عن حركة "الدولة المسيحية ـــــ روسيا المقدسة" "أكثر مما نعرف بكثير، لكنهم لا يريدون ، ولسبب ما ، العمل بمقتضى ما يعرفون" ، حسب موقع "Lenta.Ru" الإخباري .
وينقل الموقع المذكور عن نائب قسم السينودوس في بطريركية موسكو للكنيسة الروسية قوله ، بأن منظمة "الدولة المسيحية ـــــ روسيا المقدسة" لا علاقة لها بالكنيسة . لكن ما حدث لصالة السينما في الأورال ، أي بعد أشهر من الرسائل ، التي بعثت بها المنظمة المذكورة ، يثبت أن "أفكار التطرف الأرثوذوكسي قد تغلغلت في الشعب " ، حسب الموقع المذكور . وكانت قد جرت في سانت بطرسبورغ ، بمناسبة عيد رفع الصليب ، تظاهرة ضمت مئة ألف شخص ، حسب نوفوستي ، تقدمها رجال الكنيسة في المدينة ونواب وسياسيون ، رفعت فيها لافتات ضد عرض الفيلم المذكور ، كتب على إحداها "ماتيلدا، بصقة على التاريخ الروسي" . وذكرت نوفوستي نفسها أن سكان مدينة أومسك في سيبيريا أقاموا الأحد في 17 من الجاري"تجمعاً للصلاة ضد عرض "ماتيلدا" .
من جانب آخر ، أجرى الموقع الإخباري الإلكتروني ” meduza.io" (لاتفيا) في 14 من الشهر الجاري مقابلة مع زعيم منظمة "الدولة المسيحية ـــــ روسيا المقدسة" ألكسندر كالينين ، قدمت لها بالقول "الأرثوذوكس الروس قرروا ألا يتخلفوا عن داعش ، وأقاموا "الدولة المسيحية ـــــ روسيا المقدسة" ، وذلك منذ العام 2010 " .
قال الرجل في مقابلته المذكورة كلاماً وصفه موقع روسي معارض بقوله " استشهادات مرعبة من مقابلة زعيم "الدولة المسيحية". واعترضت صحيفة الكرملين على وصف "داعش" هذا ، واعتبرت أن المعارضة الليبرالية تنوي استخدام هذا الوصف ضد بوتين في حملة الإنتخابات الرئاسية القادمة . يؤكد زعيم المنظمة هذه، إن الله أوكل إليه "مهمة نقل موقف المجتمع ، أما أنا نفسي ، فلن أذهب لرمي كوكتيل مولوتوف" . وقال بأن الناس مستعدة لإحراق أي شيئ ، كل ما يدعم هذا الشرك بالله . وسوف يتحدثون ليس عن القتل ، بل عن "انتزاع الحياة من أجل الدين" . ويقول ، بأن الأمر قد يبلغ ما هو أعظم ، " "لدينا مثال القديسين العظماء ، الذين كانوا يقاصصون الشرك بالله بالإعدام على الخازوق . نحن لدينا مسيحية مقاتلة ، (نحن لدينا) الأرثوذوكسية" . ويطالب بأن تكون روسيا "إيران الأرثوذوكسية" ، حيث لا أحد يستخدم الشتائم المقزعة ، ولا أحد يشرب البيرة في الشارع ، لأنهم يقاصصون بقطع الأيدي. "البلد الأرثوذوكسي ينبغي أن يكون هكذا تماماً" . "نحن بحاجة إلى إيفان الرهيب" .
إثر قراءة هذا الكلام "المرعب" يتبادر إلى الذهن أن روسيا تدفع "ثمن" الفكر السياسي الروسي" الذي يدور على نفسه منذ مئات السنين . فها هي روسيا ترتد على ثورتها نفسها في ذكرى مئويتها ، وتعتبر أن "كارثة" حلت بروسيا في شباط العام 1917 ، حين تم إسقاط قيصرها القاتل نقولا الثاني، وتعود ، بعد مئة عام ، لتعتبره قديساً. فيلم "ماتيلدا" قادر على إحداث كل هذا الإنقسام في المجتمع الروسي.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها