الأحد 2017/09/17

آخر تحديث: 22:09 (بيروت)

"داعش" الأرثوذوكسي الروسي

الأحد 2017/09/17
increase حجم الخط decrease

في مئوية ثورتها الديموقراطية الكبرى في شباط 1917 ، تعود روسيا أدراجها إلى تلك الحقبة وتنقسم من جديد حول شخصية القيصر الروسي الأخير نقولا الثاني . وروسيا تنسجم في ذلك مع نفسها ، كما رأى الإصلاحي الروسي الكبير، ورئيس وزرائها إبان ثورة 1905 ــــــــ 1907 ، بيوتر ستاليبين ، الذي قال " كل شيئ يحدث في روسيا خلال 10 سنوات ، لكن لا شيئ يتغير فيها خلال 100 عام" . ويقول المستشرق ألكسي مالاشنكو، بأن الفكر السياسي الروسي لم يتغير منذ قرون .

روسيا منقسمة في العمق على نفسها ، منذ خريف السنة الماضية ، حول فيلم سينمائي لم يعرض في صالات السينما بعد ، بل من المتوقع أن يبدأ عرضه في أواخر شهر تشرين الأول/أوكتوبر القادم  ، بعد أن تم تأجيل العرض الأول من آذار/مارس الماضي . يتحدث الفيلم عن علاقة غرامية بين القيصر المقبل نقولا الثاني ، أي حين كان لا يزال ولياً للعهد، وراقصة بالية فاتنة تدعى ماتيلدا . واعتبر الفيلم ، الذي يحمل اسم "ماتيلدا" ، تجديفاً وتطاولاً على المشاعر الدينية ، إذ أن الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية كرست القيصر نقولا الثاني أسرته ، الذين أعدمهم البلاشفة العام 1918، شهداء الكنيسة .

بدأ انقسام المجتمع الأرثوذوكسي الروسي ، من اعتراض جمعية دينية غير معروفة في القرم  تحمل اسم "صليب القيصر" على شريط فيديو يصور العلاقة بين ماتيلدا وولي العهد "نيكي" (تصغير اسم نيكولاي)، كما كانت تناديه العشيقة ، تحبباً. وحملت النائب عن القرم في مجلس الدوما الروسي ناتاليا باكلونسكايا ، شكوى هذه الجمعية وصاغتها على شكل سؤال توجهت به إلى المدعي العام الروسي ، تطلب التحقق من محتوى فيلم "ماتيلدا" ، وما اذا كان يشكل إهانة لمشاعر المؤمنين الدينية . وباكلونسكايا هذه ، غير بعيدة عن طائفة (sect) ضمن الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية تدعى "القيصر القديس" ، وهي (باكلونسكايا)، التي شهدت منذ أشهر أنها رأت الزيت يرشح من تمثال نصفي للقيصر نقولا الثاني في القرم .

لكن الأمور بدأت تأخذ منحى تصعيدياً منذ مطلع السنة الحالية ، حين قامت منظمة إجتماعية ، مرخص لها تحت إسم "الدولة المسيحية ـــــــ روسيا المقدسة" ، ببعث رسائل إلى مديري صالات السينما تطلب منهم رفض عرض الفيلم "ماتيلدا" للمخرج ألكسي أوتشيتل . وتضمنت الرسائل   تهديدات مباشرة  ، نقلتها كافة وسائل الإعلام ، حيث ورد فيها "إذا عُرض الفيلم سوف تحترق الصالات ، وقد يلحق الأذى بالناس. إننا نعلمكم رسمياً : أي إعلان ، أو أفيش ، أو منشور يتضمن معلومات عن عرض الفيلم ، سوف يعتبر بمثابة رغبة في تحقير قديسي الكنيسة الأرثوذوكسية ، واستفزاز(لقيام) "ميدان روسي" (في إشارة إلى ساحة الثورة الأوكرانية في كييف) ، كما نقلت كافة وسائل الإعلام .

وفي آب/أغسطس الماضي تلقت دور السينما الدفعة الثانية من الرسائل ، التي كانت تتكون من 5 صفحات ، وتهدد روسيا كلها "بعواقب وخيمة" ، حيث جاء فيها ، كما ذكرت وسائل الإعلام : "إذا خرج (فيلم) "ماتيلدا" ، سوف يخرج الآلاف من أجل الحقيقة ، وخلفهم سوف يخرج الآلاف "من أجل أي شيئ" ، الآلاف من المحرضين ، الذين سيحصلون على فرصتهم ، التي ينتظرونها منذ زمن ، لتمزيق روسيا وشعبها ... سوف يبدأ المحرضون بإحراق دور السينما ، ولن يكلفهم الأمر كثيرا ... المعارضة تدفع مئات الملايين من أجل أن تبدأ الحرب ، من أجل أن تزعزع الشعب . لكن عرض"ماتيلدا" على الشاشات ، سوف يفضي إلى نتائج مرعبة لكل روسيا ... مقابل 10 ملايين روبل لا غير يمكن إحراق كل دور السينما الروسية" .

في نهاية شهر آب/أغسطس المنصرم ، هاجم مجهولون ليلاً في سانت بطرسبورغ المبنى ، الذي يقع فيه استوديو مخرج الفيلم ألكسي أوتشيتل ، وحطموا واجهة المبنى . وبعد أيام أقدم مجهولون على إحراق سيارة محامي المخرج في موسكو .

وفي صباح الرابع من الشهر الجاري ، قام أحدهم في مدينة في الأورال باقتحام صالة للسينما بشاحنة محملة ببالونات الغاز والبنزين . وكان يقود الشاحنة رجل أربعيني ، لم يعتقل في مكان الحادث ، بل تم القبض عليه ، حين ذهب بنفسه إلى المستشفى لمعالجة الحروق ، التي أصيب بها . واعترف الرجل أمام المحققين ، بأنه أتى إلى المدينة بسيارته ، التي اشتراها بنفسه لهذا الغرض ، وأمضى طيلة نهاره السابق في إحدى كنائس مدينة يكاتيرنبورغ ، عاصمة الأورال . واستنكرت بطريركية يكاتيرنبورغ  ، الحادث بشدة ، ونأت بنفسها عن مرتكب الحادثة .

وزارة الثقافة الروسية ، التي تصر على عرض الفيلم ، كما الكرملين ، طلبت رسمياً من وزارة الداخلية تأمين الحماية لدور السينما ، التي لم ترفض ، حتى الآن ، عرض الفيلم . لكن محامي مخرج الفيلم يتهم الأجهزة الأمنية بتقصير متعمد ، يقول ، بأن هذه الأجهزة  تعرف عن حركة "الدولة المسيحية ـــــ روسيا المقدسة" "أكثر مما نعرف بكثير، لكنهم لا يريدون ، ولسبب ما ، العمل بمقتضى ما يعرفون" ، حسب موقع   "Lenta.Ru" الإخباري .

وينقل الموقع المذكور عن نائب قسم السينودوس في بطريركية موسكو للكنيسة الروسية قوله ، بأن منظمة "الدولة المسيحية ـــــ روسيا المقدسة" لا علاقة لها بالكنيسة . لكن ما حدث لصالة السينما في الأورال ، أي بعد أشهر من الرسائل ، التي بعثت بها المنظمة المذكورة ، يثبت أن "أفكار التطرف الأرثوذوكسي قد تغلغلت في الشعب " ، حسب الموقع المذكور . وكانت قد جرت في سانت بطرسبورغ ، بمناسبة عيد رفع الصليب ، تظاهرة ضمت مئة ألف شخص ، حسب نوفوستي ، تقدمها رجال الكنيسة في المدينة ونواب وسياسيون ، رفعت فيها لافتات ضد عرض الفيلم المذكور ، كتب على إحداها "ماتيلدا، بصقة على التاريخ الروسي" . وذكرت نوفوستي نفسها أن سكان مدينة أومسك في سيبيريا أقاموا الأحد في 17 من الجاري"تجمعاً للصلاة ضد عرض "ماتيلدا" .

من جانب آخر ، أجرى الموقع الإخباري الإلكتروني ” meduza.io" (لاتفيا) في 14 من الشهر الجاري مقابلة مع زعيم منظمة "الدولة المسيحية ـــــ روسيا المقدسة" ألكسندر كالينين ، قدمت لها بالقول "الأرثوذوكس الروس قرروا ألا يتخلفوا عن داعش ، وأقاموا "الدولة المسيحية ـــــ روسيا المقدسة" ، وذلك منذ العام 2010 " .

قال الرجل في مقابلته المذكورة كلاماً وصفه موقع روسي معارض بقوله " استشهادات مرعبة من مقابلة زعيم "الدولة المسيحية". واعترضت صحيفة الكرملين على وصف "داعش" هذا ، واعتبرت أن المعارضة الليبرالية تنوي استخدام هذا الوصف ضد بوتين في حملة الإنتخابات الرئاسية القادمة . يؤكد زعيم المنظمة هذه، إن الله أوكل إليه "مهمة نقل موقف المجتمع ، أما أنا نفسي ، فلن أذهب لرمي كوكتيل مولوتوف" . وقال بأن الناس مستعدة لإحراق أي شيئ ، كل ما يدعم هذا الشرك بالله . وسوف يتحدثون ليس عن القتل ، بل عن "انتزاع الحياة من أجل الدين" . ويقول ، بأن الأمر قد يبلغ ما هو أعظم ، " "لدينا مثال القديسين العظماء ، الذين كانوا يقاصصون الشرك بالله بالإعدام على الخازوق . نحن لدينا مسيحية مقاتلة ، (نحن لدينا) الأرثوذوكسية" . ويطالب بأن تكون روسيا "إيران الأرثوذوكسية" ، حيث لا أحد يستخدم الشتائم المقزعة ، ولا أحد يشرب البيرة في الشارع ، لأنهم يقاصصون بقطع الأيدي. "البلد الأرثوذوكسي ينبغي أن يكون هكذا تماماً" . "نحن بحاجة إلى إيفان الرهيب" .

إثر قراءة هذا الكلام "المرعب" يتبادر إلى الذهن أن روسيا تدفع "ثمن" الفكر السياسي الروسي" الذي يدور على نفسه منذ مئات السنين . فها هي روسيا ترتد على ثورتها نفسها في ذكرى مئويتها ، وتعتبر أن "كارثة" حلت بروسيا في شباط العام 1917 ، حين تم إسقاط قيصرها القاتل نقولا الثاني، وتعود ، بعد مئة عام ، لتعتبره قديساً. فيلم "ماتيلدا" قادر على إحداث كل هذا الإنقسام في المجتمع الروسي.






increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها