الأحد 2017/08/27

آخر تحديث: 11:38 (بيروت)

عن معركة الجرود وأغانيها الوطنية

الأحد 2017/08/27
increase حجم الخط decrease
في الحر اللاهب والرطوبة الخانقة، وشح الكهرباء والمياه وضعف الاتصالات والمواصلات، تصبح الاغاني الوطنية، السخيفة أصلاً، التي تبث على مدار الساعة هذه الايام،عملية تعذيب قاسية، لا تخدم الحملة التي يشنها الجيش على داعش في جرود السلسلة الشرقية، بل لعلها تجردها من أحد أهم عناصر قوتها.

تلك الاغاني والاناشيد التي كُتبت على عجل ولُحنت بلا نغم، تعلن اليوم ان لبنان في حالة حرب، تقتضي تعبئة الجمهور وحشد الطاقات وفتح الآفاق.. وإغلاق النقاشات. فالعدو لا يرحم ولا يحتمل أنصاف الحلول. والإجماع الوطني فرصة نادرة لا يمكن إضاعتها. والاستثمار في تلك الحالة مجزٍ للجميع: للمحارب على الجبهة الذي يعرض حياته للخطر من أجل ذلك الهدف السامي، وللمتحمس الذي يريد أن يثبت أنه كان دائما على حق، وللمؤيد الذي يود أن يتبرأ من شبهة الارهاب او التراخي معه..

ولأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، يصبح التنقيب عن جوهر ما يحصل في الجرود، عن جدواه، كلفته، حصيلته النهائية، عبثاً يلامس الخيانة الوطنية، ويشكك في مسار السياسة الرسمية الذي يتجه نحو شراكة عسكرية وسياسية جديدة مع النظام السوري، تحظى، للاسف الشديد، بغالبية لا شك فيها، ولا تواجه في المقابل إعتراضات أو تحفظات كافية..

في حالة حرب التي فُرضت على لبنان وعلى جيشه وعلى مواطنيه، يصعب العثور على أدلة قاطعة عما إذا كان البلد قد إستعد بما يكفي للتحرك في الجرود. وحدات الجيش التي تتقدم في الميدان، تبدو وكأنها طليعة حملة تعبئة وطنية تعيد إنتاج دور المؤسسة العسكرية ووظيفتها وموقعها، وهو أمر مطلوب ومرغوب دائماً. لكن المعركة تصبح حرجة فعلا، إذا ما تبين أن العدو المستهدف داعشي حقاً، وليس مجموعة من المهربين والهاربين الذين تقطعت بهم السبل، فرفعوا راية داعش السوداء طلباً للعون او الملاذ.

لا دليل في الخارج على أن حملة الجرود اللبنانية هي جزء من الحملة العالمية الضارية التي تشن هذه الايام على الرقة ودير الزور وتلعفر، وغيرها من المدن والانحاء السورية والعراقية التي يشعلها الطيران الحربي الاميركي والاوروبي والروسي ويدمرها على رؤوس سكانها، من أجل ان يحررها من سطوة التنظيم الارهابي.

وليس من المبالغة القول أنه كان يمكن لبضع غارات أميركية او أوروبية او حتى روسية أن تحسم ، خلال ساعات أو ربما أيام ، معركة الجرود وتنهي الوجود الداعشي المفترض، من دون ان تعرض الجيش اللبناني وأفراده لأي خطر، اولأي خسارة. وهنا، إما أن لبنان لم يطلب ذلك المدد الجوي من أي شريك في الحرب على داعش، من الفرنسيين مثلا أو البريطانيين، أو أن الجرود تقع فعلاً خارج سياق تلك الحرب، وتشكل  منطقة هامشية ، مجردة من أي قيمة عسكرية أو سياسية ، أسقطت عليها توصيفات كبرى، من أجل ان تكون مدخلاً لجدول أعمال لبناني سوري خاص..يتخطى هدف معرفة مصير العسكريين التسعة المخطوفين من قبل داعش منذ ثلاثة أعوام، ويؤسس لتعديلات جوهرية في شكل الحكومة ولون الانتخابات!

الوقوف وراء الجيش اللبناني، واجب لا جدال فيه. لكن الواجب أيضاً القول أن معركة الجرود تكاد تكون نسخة طبق الاصل عن معركة نهر البارد، بكامل تفاصيلها اللبنانية والسورية، وبمختلف اسئلتها التي كانت ولا تزال معلقة حتى اليوم..مع العلم ان لبنان تلقى حينها دعماً عربيا ودوليا يفتقده الان، ما يوحي بأنه ذهب لوحده الى الجرود لكي يختبر قوته ووحدته الوطنية..وعلاقته مع النظام السوري.

ثمة ما يبرر الاستنتاج أن العدو المتخفي في الجرود جرى تضخيمه أكثر من اللازم. وكذا الخطر الآتي من تلك البقعة الجرداء المحاصرة. لكن ذلك لا يعني بأي حال من الاحوال التراجع أو الانسحاب. المسؤولية الوطنية باتت تقتضي خوض المعركة حتى النهاية..وبذل المزيد من الجهود، وفتح المزيد من النقاشات، عل في ذلك ما يخفف الخسائر السياسية والعسكرية، الى الحد الادنى.

اللعب مع داعش، مهما كان حجم فرقته الجردية، ليس سهلاً. والدليل يمكن أن توفره مختلف دول التحالف العربي والدولي، التي لم تنبس حتى الآن ببنت شفة حول دخول لبنان في حالة حرب، حافلة بالاغاني والاناشيد الوطنية التافهة والألاعيب السياسية الفاضحة.

      

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها