السبت 2017/07/08

آخر تحديث: 08:39 (بيروت)

حكاية سوري خيّم في أعلى قمتين

السبت 2017/07/08
increase حجم الخط decrease

"فيزيو ترابويت" أو العلاج الطبيعي أو الفيزيائي هي المهنة التي أدعاها زميلنا الحلبي خان طوماني لنفسه، في مدرسة تعليم اللغة الألمانية. وخان طومان هو اسم بلدة حلبية، وفي تسمية إنسان باسم قرية غرابةٌ وعجب. في البداية ظننا أنه باكستاني، فالباكستانيون تكثر في أسمائهم صفة الخان، وهو العظيم، والملك. خان طوماني يأتي دائماً إلى المدرسة بحقيبة السامسونايت. فيه صفات من "حضرة المحترم"، الذي روى نجيب محفوظ قصته، وصفات من قاضي البصرة عبد الله بن سوار، الذي روى الجاحظ قصته الشهيرة مع الذبابة الأباتشي.

يميل الألمان في الحمولة، إلى حقيبة الظهر الرياضية، في المدارس والرحلات القصيرة، فمن محاسنها تحرير اليدين من عناء حمل الحقيبة، وتوزيع الحمل على المتن، وهو أحمل وأعدل. كان السوريون من أكثر الشعوب استهلاكاً لحقائب السامسونايت الفاخرة، فهي في ملتهم واعتقادهم علامة الفروسية السورية المعاصرة، إذ تجعل حاملها مهيباً، ذا شأن وقدر وكعب. خان طوماني يضع، أبداً، نظارة ثلاثية الأبعاد، أكحل من طلاسم الليل البهيم، ويأتي دائماً متأخراً نصف ساعة، فرجال الأعمال يتأخرون دوماً عن مواعيدهم. ويقف باحترام، في سمت الوتد، في اللحظة التي ينعدم فيها للعود ظل، ويقول معتذراً للمدرّسة بوقار الجندي المثالي: كان عندي موعد، آسف.

ويجلس، ثم يتفقد متاعه من أقلام الرصاص والمحايات والبرايات والمساطر وأقلام التلوين فرشاً على النضد. ويغادر أيضاً قبل نصف ساعة بالطريقة نفسها، ويقف وكأنه في دقيقة صمت حداداً على فقدان الجندي المجهول، ويقول: أعتذر لدي موعد.

له مواعيد عرقوب مع أشباح الدنيا. مهنته ليس لها مثيل كما يظن، وإذا ما بحثت المدرّسة ماريون الحسناء، ذات الَترَائِب المَصْقُولَةٌ كالسِّجَنْجَلِ، وهو وصف لصدر السيدة عنيزة البراق اللون المتلألئ الصفاء كتلألؤ المرآة في معلقة امرئ القيس، عن فرصة عمل   لأحد الزملاء، فالبحث عن عمل في ألمانيا ليس سهلاً، طلب منها أن تبحث له عن مهنة فيزيو تيرابويت، ثم صارت المدرّسة تكتشف الجانب المضحك من الحياة، وتبتسم مثلنا من سلوكه وإصراره على ذكر مهنته في السانحة والبارقة، وليس من عادة المدرّسة أن تضحك من سلوك الغرباء.

تعلّم هذا العلم في مشفى شيحان في حلب، حتى أنه أرفق صورته بطوله الكامل، بقوامه وقده، تعريفاً في سيرته الذاتية، وعلى كتفه لافتة كلافتات ملكات الجمال، تتدلى من رقبته إلى طرف خصره الآخر!

وفي الاستراحة نخرج للتنفس والراحة من وعثاء اللغة الألمانية، وشرب السوائل لنتبرد من حرِّ العلم، فنعود لنجد خان طوماني وقد جندل أحد الزملاء صريعاً على النضد، بالحسنى أو بالخدعة، وانهمك في فتح براغي ظهره مثل ميكانسيان خبير، يعاير العظام ويعيد دعكها، ودغدغة الأعصاب المحيطة بها، وضخ الدماء في الأقنية الجافة في الغضاريف النائمة، وأحياناً يخاطب العظام والمفاصل والفقرات، ويهمس في آذانها ببعض الأغاني والمواويل، فله مذهب خاص في العلاج الطبيعي الفيزيائي.

قلت همساً لزميلي صبحي، الذي يؤمن مثلي بنظرية المؤامرة، لكن المؤامرة التي علينا، وليس التي عليهم: أتصدق أنه معالج فيزيائي! فليس معه سوى شهادة بكالوريا أدبية؟

قال أبو صبحة: يا أخي في بلادنا كلنا عملنا في هذه المهنة، يطلب منا الوالد الذي يقضي وقته في العمل واقفاً، ويعود لتكسر له ربة الينبوع ظهره في الحب والطعام، أن نعالجه فيزيائياً، فيطلب منا أن نصعد على ظهره وندبك قليلاً..  ألم تعالج والدك فيزيائياً؟

قلت: ويكون ظهر الوالد ملتهب الفقرات من وقع النصال على النصال، مصاباً بالمناقير وغيرها من أسقام العظام، وما إن تقترب من لغم مفصل ملتهب حتى يصيح: انزل يا ابن الكلب.. كسرت ظهري، والحقيقة أن التي كسرت ظهره هي ربة الينبوع.

الغرض من دروسنا في هذه الحلقات الدراسية، هو الحوار والحديث. الحسناء ماريون، التي لا يشتكي منها قصر ولا طول، وتَرَائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسِّجَنْجَلِ، يستطيع الرائي أن يرى صورته وصورة ماضيه ومستقبله في سجنجل صدرها، تسأل المدرّسة زميلنا صبحي: وماهي مهنتك في الوطن الأم يا حضرة الصبحي؟

 صبحي خفيف الدم، حلو العارضة، يقول الطرفة بكل رصانة من غير أن يرمش له جفن، بدم بارد: كنت أعمل بالفاعل؟

تلبث مذهولة لاستخدامه صيغة صرفية في المهنة، الفاعل؟ هل كنت تدرس النحو والصرف؟ لم أفهم..

يقول لا: الفاعل يا سيدتي هو..

ينجده يوسف الغاني المسلم، الذي يضع حجاباً لشعره، فأهل العالم الثالث كثيرو النخوة والنجدة، وقد أنجدونا بمصفوفات الأرض القتلة، وبكل الأسلحة، في سوريا، حتى ضاقت بما رحبت، مثلهم مثل حكومتنا، صاحبة نجدة ونخوة، تعبّر عنا من غير أن يفتح واحد من أبناء الشعب فمه، هي التي تنطق عنا في منابر الأمم.

قال يوسف المخمور بخمار أبدي على رأسه في الصيف والشتاء: سيدتي هو رجل مثليٌ. الفاعل هو الذي يبيع اللذة للمفعول بهم.

تسأل ماريون: يعني تقصد.. تبيع الهوى يا سيد صبحي للذكور؟  أفي بلادكم هذه المهن الكريمة الفاضلة؟

أبتسم في عبي الذي يلعب فيه الفأر ميكي ماوس.

ينهض زميلنا مصطفى الحلبي للنجدة التعبيرية: سيدة ماريون، في بلادنا مهنتان، الحكومة تعمل في مهنة الفاعل، والشعب يعمل في مهنة المفعول به، المفعول به منصوب دوماً، ومذبوح على النصب، ويستسقم به في الأزلام.. نحن بلاد مثلية، الكل مثليون، نحن حضاريون مثلكم يا مولاتي.

فيزيو ترابويت لا يعرف المزاح كثيراً، لقد فقد أندلسه حلب، وإليها قصد السبيل، ومنها جائر، ويريد أن يستعيد أندلسه، بتحرير آلام عظام البشرية من عهد ثمود وعاد، ويتقدم للتوضيح والبيان كعادة السوري في نجدة أخيه السوري، بحرمانه من حريته في التعبير: هو يعمل بالأعمال الحرة، الأعمال اليومية، مثل حفر الأرض، وسكب الإسمنت، ورفع الأحمال..

تبتسم ماريون: يعني لديه شركة إنشاءات معمارية؟ أهو رجل أعمال؟

نقرر ترك المدرّسة لفهمها، لن نقول لها أن أدوات العمل بالفاعل هي حمل المعول أو الفأس أو الزنبيل، وليس آلات الرغبة كما يوحي اللفظ. الحياة صعبة، ولابد من بعض التضحيات في المعنى وحرية التعبير، أحياناً نضحي بكثير من المعاني الصغرى ضريبة من أجل محنة التعايش.

تسأل ماريون السيدة خديجة المغربية: وأنت يا سيدة خديجة؟

السوريون، والعرب عموماً يميلون إلى الاستعراض ومديح الذات، يحبون الفخر، ليس أكثر من أشعار الفخر وديوان الحماسة في الشعر العربي، المتنبي قتله الفخر بالذات، المنية ولا الدنية. في ألمانيا، من الكفر السؤال عن مقدار الأجر المالي والطبقة الاجتماعية، لكن السوري الذي كان يعمل في الفاعل يكاد يقول: كنت أميراً على حلب.

يشعرك الجميع أنهم كانوا أمراء. القناعة إمارة من أغنى إمارات وممالك الدنيا.

قالت خديجة: أنا أعمل ربة بيت.

تحكُّ ماريون رأسها محاولة أن تفهم مشاكل التعبير الركيك بالألمانية، والمترجم الآلي اللعين له شؤون وشجون: آلهة في البيت!

تسأل: كيف؟ يعني تقبضين أجوراً على تعليم مهن منزلية؟ بيتك هو مدرسة؟ أأنت آلهة؟

يبادر الجميع إلى النجدة. تبلغ منا الحرية أن نسرق الكلمة من فم الصديق والزميل. سوريا لاقت مصير الدمار بسبب فقدان الحرية على التعبير، شكري القوتلي وهبنا لعبد الناصر من غير أن يستشيرنا، الأسد نكل بنا ووترنا وهجرنا واثكل أمهاتنا ويتم أولادنا من غير أن يكون لنا رأي.

لنا أصدقاء على الضفة الأخرى، نسميهم أبناء الطائفة الكريمة، يستغربون تضورنا من جوع التعبير، فنقول لهم: أقدامكم في الماء البارد يا أبناء الست.

يقول صبحي: هي تعمل ملكة وليس آلهة، ولها رعايا أقل مما لدى الملكات، قد يبلغون العشرة أو العشرين من الأولاد والبنات، لكن الأمر والنهي في ربوع ديارها بيدها سيدتي العزيزة.

ينهض فيزيو ترابويت، ويحاول المبادرة إلى تدليك المعاني الغامضة التي أصابها الروماتيزم، والقيام بمعالجة فيزيائية لآلام الحديث باللسان الألماني الأعجم: عملها في البيت. السوريون يفضّلون أن تتفرغ الزوجة لخدمة الأولاد والزوج. من الشدة والظلم أن تعمل المرأة في مهنتين، والمهنة من الهوان، وعملها في البيت شاق، تؤجر عليه بأحد أجرين يا سيدتي: بالتقديس والاحترام، أو بالطلاق. إذا خلطت بين العمل في الليل والعمل في النهار.

لقد بلغ السيل الزبى، والتلفيقات الإعلامية صارت مهنة في هذه الأيام، والعربية وسكاي نيوز حذت حذو قناة الدنيا، التي صارت معلّمة في مضمارها. أرفع يدي طالباً الإذن بالحديث، فأنا أطمع في أن أصير عريفاً للصف، وأتصنع تقوى اللطف والكياسة، وأدّعي إتقان آداب الكلام وعلوم اللياقة، واحترام الحضارات، كي ترسلني المدرّسة في سفارة إحضار الطباشير من الصف المجاور: سيدة ماريون، في سوريا قديماً كان هناك ربات، مثل ربة الينبوع، وربة الحصاد، وربة الحسن الصبوح، التي غنى لها صباح فخري... وأخرجتُ صورة بعض الربات السوريات، هذه صورة لربة الينبوع على ورقة الخمسمائة ليرة، التي أطاح بها رب السارين السوري الجديد، ووضع صورته. خلعها خلعاً.

تنظر ماريون إلى صورة ربة الينبوع، وهي تحمل جرة، وعلى فستانها تسبح الأسماك من غير ماء، ففهمت، وهزّت رأسها، وقالت: إذا كانت الزوجة ربة الينبوع، فماذا يكون الزوج؟

قلت: عبد، لا شأن له سوى الحلب والصرّ، أو قد يصير في أحسن الحالات سفيراً، أو قنصلاً فخرياً، أو عريف صف، يحضر الطباشير من الصف المجاور، وكأنه جيسون وقد أحضر الجزّة الذهبية.

تأخذنا المدرّسة في جولات سياحية على شركات، أو أمكنة سياحية للتعرف على ألمانيا، فيتخذ خان طوماني أول كرسي آلي كهربائي للتدليك في غرفة الاستقبال في مصنع السيارات، ويضع سماعة على أذنه، ويعصب عينيه بنظارة أفلام ثلاثية الأبعاد، ويغيب في العسل.

سألتني صاحبة الترائب المصقولة كالسجنجل عن مهنتي، قلت: أنا طالب.. القرب من ألمانيا.

وصححتُ لها قائلاً: طالب لغة ألمانية في مستوى ثابت، هو أقل المستويات، A2، وهو نفس مستوى من ينال شهادة سواقة، ويضع شاخصة تقول: ممنوع الاقتراب، خطر الموت، ترويض، احذر السائق مجنون.

المستوى ثابت في اللغة، هل رأيتِ في حياتك دبوراً محبوساً وراء الزجاج، أنا ذلك الدبور.

لم تفهم ماريون شيئاً. حان موعد الاستراحة، فخرجنا، وعدنا في أيدينا كؤوس القهوة. كان المشهد السوري الخالد وكأنّ ميدوزا السحرية قد ألقت علينا نظرة من نظراتها، التي تحوّل الإنسان إلى حجارة، أو كأن كتيبة إعدام قد أشهرت في وجوهنا إحدى وعشرين بندقية.

كان فيزيو ترابويت، حامل البكالوريا الأدبية، المحتقرة في سوريا، فالعزّ للبكالوريا العلمية، قد سحر ماريون، فجندلها صريعة بالحكمة والكلمة الحسنة، فاستلقت على النضد، على بطنها، وصارت المعلّمة مثل الخرقة بين يدي تلميذها خان طوماني. هذه صوفية مقلوبة. الدنيا كلها مقلوبة. كان خان طوماني قد خطب فينا يوما وقال: الظهر الظهر..  خسرنا الثورة لأنه لا ظهر لنا...  راعوا فقرات ظهوركم، ليأخذ بعضها برقاب بعض، في الاتحاد قوة..  داس الذئاب على بطوننا، فصحنا: أخ يا ظهورنا. وختم خطيبته القصيرة قائلا من وراء النظارة السوداء الثلاثية الأبعاد: قفوا باعتدال تصحّوا.

وكانت أصابعه تعزف على أزرار ظهرها وأوتار جلدها الناصع  السنجنجل.. لم نكن نعرف مشاعر فيزيو ترابويت ، الذي يخفي عينيه بالنظارات السوداء، لكنه كان يتصرف وكأنه يقوم بعمل غير الذي في رؤوسنا نحن الضالين. فيزيو ترابويت، وليس كما نتوهم.

يقال: التحرير يبدأ من تحرير الرأس من ربقة الزنار.

هذا هو الموعد والوعيد.

ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج فتحٌ.

وقفنا، مكسوري الظهور، مخذولين، ننظر إليها. وهي مغمضة العينين، مُهفْهَفة ٌ والسِّحرُ من لَحظاتها، إذا كلمتْ ميتاً يقوم منْ اللحدِ، لا يرتد إلينا طرفنا، وأفئدتنا هواء. لم نعرف الأغنية التي كان يعزفها على قيثارة عود ربّة الحسن الصبوح، إنها أغنية الخليقة والكينونة،  أغنية  البداية والنهاية..

 وكان قد نزل بأصابعه من الكتد، ماراً على سناسن الفقار، وبدأ يقترب من.... أعلى قمتين في العالم.




increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب