الثلاثاء 2017/08/01

آخر تحديث: 07:05 (بيروت)

الخصوبة خطيئة الفقراء

الثلاثاء 2017/08/01
increase حجم الخط decrease
قبل بضعة أعوام، نظمت الجامعة البريطانية حيث كنت أدرس، رحلة صيفية تدريبية إلى جزيرة اسكتلندية. كان الهدف من الرحلة التي نظمها قسم علم النفس التطوري، هو أن يجمع الطلبة بيانات عن عدد البَيض في أعشاش أحد أنواع الطيور التي تستوطن الجزيرة، ومقارنتها بعدد الأفراخ التي ستتمكن من الحياة حتى بلوغ سن الطيران. جاءت نتيجة التحليل الإحصائي للبيانات التي جمعها الطلبة حينها، متطابقة مع نتائج الدراسة الكلاسيكية، كما كان متوقعاً. فبالرغم من أن عدد البَيض في الأعشاش تراوح بين بيضتين وستّ بيضات، فإن متوسط عدد الأفراخ التي استطاعت البقاء حتى بلوغ سن الطيران، ظل دائما في حدود ثلاثة لكل عش. كان علينا أيضاً مقارنة تلك البيانات بسابقاتها التي تم تجميعها خلال السنوات السابقة، مع الأخذ في الاعتبار الظروف المناخية والبيئية في كل موسم للتزواج، وهو الأمر الذي أثبتت نتائجه أنه كلما ساءت الظروف البيئية المحيطة، ومثّلت تهديداً على بقاء الأفراخ، كلما زاد متوسط عدد البيض في الأعشاش، وإن ظل متوسط البقاء ثابتاً كما هو.

لم يكن الأمر متعلقاً بدارسة سيكولوجيا الطيور، بل بربط تلك النتائج بدراسات عن الخصوبة والفقر في المجتمع البشري. ففي عدد من الدراسات لمعدلات الخصوبة في بريطانيا، والتي وجّهنا أستاذنا للإطلاع عليها، كانت النتائج متشابهة تماماً، مؤكدة علاقة عكسية بين معدلات الدخل والظروف الإجتماعية، مع معدلات الخصوبة. فأبناء الطبقة العاملة في الشمال الإنكليزي هم الأكثر إنجاباً، وإبناؤهم هم الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض المزمنة، وبالتالي هم الأقصر عمراً أيضاً. وانسحبت النتائج على دراسات مقارنة دولية، فكلما تدنت معدلات الدخل والخدمات الصحية في بلد أو مجتمع ما، ارتفعت معدلات الإنجاب.

لم تكن الفكرة جديدة. فمنذ نشر توماس مالتوس، ورقته عن السكان، في نهاية القرن الثامن عشر، حظيت نظريته عن دور الطبيعة في حفظ التوازن بين عدد السكان والموارد والإنتاج، بمكانة معتبرة في العلوم الطبيعية والإجتماعية. لم تكن "الموانع الإيجابية"، كالحرب والمجاعة والأوبئة، التي اعتبرها مالتوس يد الطبيعة الخيرة لحفظ التوازن، هو ما أزعج الطلبة من محاضرات علم النفس التطوري. بل النزول بالإنسان إلي مرتبة الحيوان، هو ما أزعج معظمهم. كان أستاذنا في معرض الدفاع عن نظريته، يعيد علينا دائماً أن الإنسان جزء من سلسلة تطورية حيوانية، وأن البشر لهم أجساد وهرمونات وجهاز عصبي بيولوجي كلها تؤثر في سلوكياتهم وأمزجتهم وقدراتهم، وأن أفكار الإنسانية المثالية، لا مكان لها في العلم، ولا في محاضراته.

لم يخلُ الأمر من بعض الإثارة. فأساتذة قسم علم النفس الإجتماعي، كانوا شديدي الهجوم على أستاذنا ونظرياته، بل إن واحدة منهم وصفته في إحدى محاضراتها بـ"اليوجيني"، الأمر الذي اعتبره أستاذنا شتيمة تتجاوز مهانة إتهامه بالنازية. وفي إثناء الأزمة التي وصلت إلى شكاوى قانونية بين أساتذة القسمين، كان على الطلبة الإطلاع على دراسات تعتمد منطقاً مغايراً لتفسير العلاقة الطردية بين الفقر والخصوبة. فعوامل تتعلق بخلل في نظام الضمان الإجتماعي البريطاني، ومعدلات الدخول وفوارقها الشاسعة، بالإضافة إلى أزمة السكن وكلفة المعيشة، كانت نتيجتها أن يصبح دخل الأم المعيلة، الوحيدة، والمتعطلة عن العمل، من إعانة الدخل الإجتماعي، أعلى من دخلها لو التحقت بوظيفة متواضعة الأجر ولن يكون كافياً لتعظية تكلفة إيجار غرفة في شقة مشتركة. وكلما زاد عدد أطفالها، ارتفع دخلها من الضمان الإجتماعي، وزادت فرصها في الحصول على سكن مدعم من الدولة بمساحة أكبر. ربما تثبت تلك الدراسات نظرية مالتوس بالفعل، فالبقاء والخصوبة مرتبطان، لكن ليس بدافع الطبيعة أو لأسباب بيولوجية، بل بفعل قرار واع، تحدده بنية جتماعية اقتصادية، وسياسية.

يعود الجدل حول مسألة الخصوبة مرة أخرى، مع تصريحات الرئيس الفرنسي، الشهر الماضي، عن مشكلة إفريقيا "الحضارية"، المتعلقة بكثرة الإنجاب. وكما أن العنصرية البيولوجية لم تعد ممكنة هذه الأيام، فلم يعد أحد يجرؤ على إرجاع معدلات التنمية المنخفضة، في العالم الثالث مثلاً، إلى تخلف التركيب الجيني لسكانه كما في الماضي. لكن العنصرية "الثقافية" الجديدة، أي تفسير "التخلف" الاقتصادي ببنية ثقافية "متخلفة" لشعوب بعينها، تصل إلى النتائج نفسها إذ تغلف نظرية مالتوس بقشرة ثقافية، تنفي العوامل الإجتماعية والإقتصادية. فكما أن الخلل في نظام الضمان الإجتماعي، في العالم الأول، يدفع الطبقات الأفقر إلى كثرة الإنجاب، فإن غياب هذا النظام في دول العالم الثالث، هو ما يدفع فقراءه في الإتجاه عينه.

في مجتمعات العالم الثالث، والتي ما زالت تعتمد على الاقتصاد الزراعي والمنتجات الأولية، تبقى عمالة الأطفال فيها مصدراً ضرورياً للدخل، لتأمين الحاجات الأساسية للأسرة والمجتمع المحلي، وضماناً لإعالة آبائهم في مرحلة الشيخوخة أو العجز مستقبلاً. وبالطبع، يمكن اعتبار الضرورات التي تفرض كثرة الإنجاب في المجتعات الفقيرة، ذات صبغة ثقافية، لكن محدداتها تعود في جزء كبير منها إلى بنية الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية، والتي لا تزال مؤسسة على بنية الاستعمار القديم.

لكن، وخلافاً لعنصرية ماكرون الثقافية والتي ربطها بالفساد السياسي في إفريقيا، فإن الرئيس المصري، في تصريحاته المتوالية خلال الأسبوعين الماضيين، عن الزيادة السكانية ووضعها جنباً إلى جنب مع الإرهاب كأحد التحديات التي تواجهها مصر، يتجاوز التفسيرات الطبيعية والثقافية لمسألة الخصوبة ومعدلاتها: "إنتبه لأنك مسؤول أمام الله، قبل الوطن وأولادك، عن الأولاد اللى هتجيبهم... أنا بتكلم من منظور ديني، إنت بتضيّع أولادك لأنك مش قادر تنفق عليهم".. يقلب السيسي منطق مالتوس على رأسه، هابطاً بالأمر إلى المسؤولية الفردية، وكأن الأمر لا يتعلق بأولويات السياسة ولا ببنية الاقتصاد أو معدلات التعليم وجودته، أو خدمات الصحة الإنجابية العامة وكفاءتها، بل بالدِّين و بالوقوف بين يدى الله. لا مسؤولية على الدولة، ولا لوم حتى على "ثقافة" الفقراء أو مشكلتهم "الحضارية"، فهذه ربما تكون مسؤولية الدولة أيضاً. يلخص لنا السيسي الأمر كله: فجريمة الخصوبة سببها فساد عقيدة الفقراء واختلال إيمانهم، وحسابهم سيكون عسيراً، في آخرتهم كما في دنياهم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها