الثلاثاء 2017/07/04

آخر تحديث: 12:52 (بيروت)

هِبة مصر للنظام العالمي

الثلاثاء 2017/07/04
increase حجم الخط decrease
قبل يوم واحد من ذكرى 30 يونيو، قامت الحكومة المصرية برفع أسعار الوقود، بنِسَب بلغت 100%. وهذه هي المرة الثانية في أقل من ثمانية أشهر التي ترتفع فيها أسعار الوقود في مصر. ففي نوفمبر الماضي، رفعت الحكومة السعر بنحو 47% في إطار خطتها لرفع الدعم نهائياً عن المحروقات بحلول العام 2019، وفقاً لاتفاقها مع صندوق النقد الدولي المتعلق بقرض قيمته 12 مليار دولار.

كانت الزيادة الأخيرة متوقعة. فشروط قرض صندوق النقد لم تكن سراً، لكن نسبة الزيادة التي جاءت ضعف سابقتها، وعلى خلفية اعتراف الصندوق نفسه بخطأ توقعاته بخصوص تأثير تحرير العملة المحلية في معدلات التضخم التي تعدت 30% بعد فقدان الجنيه نصف قيمته، هي التي كانت صادمة وغير متوقعة. ويذهب البعض إلى أن توقيت تسريع الحكومة في إجراءات خطتها التقشفية، جاء مقصوداً بعد أزمة جزيرتي تيران وصنافير. فموجات من الصدمات المتتابعة والعميقة قادرة على إزالة تأثير سابقتها، عبر تكثيف حالة الصدمة لدى المواطنين على أكثر من جبهة. لكن الأمر أكثر من مجرد إجهاد لردود الأفعال وتشتيتها، فتمرير اتفاقية الجزيرتين بقليل من المقاومة، كان كفيلاً بترسيخ قناعة لدى المواطنين بقدرة النظام المطلقة على فرض إرادته، من دون الحد الأدنى من العواقب.

تتجاوز مسألة رفع الدعم عن الوقود مجرد اضطرار النظام المصري للخضوع لاشتراطات صندوق النقد، وتنفيذ إجراءات مؤلمة، لا مفر منها، بغرض إعادة هيكلة منظومة الدعم التي، بلا شك، تفتقر للكفاءة والعدالة في توزيع مخصصاتها. فعملية الانخراط في النظام الاقتصادي العالمي، والتى بدأها أنور السادات مع سياسات "الانفتاح"، واستمر فيها حسني مبارك عبر عقود ثلاثة من الخصخصة التدريجية، ورفع يد الدولة عن الخدمات الأساسية، من السلع التموينية المدعومة وصولاً إلى التصنيع والتعليم الجامعي، لصالح القطاع الخاص المحلي والشركات العابرة للقارات.. الانخراط هذا بلغ نقطته القصوى، ومرحلته النهائية، مع تحرر النظام الحالي من كافة الكوابح وبنود العقود الاجتماعية مع المواطنين.

فالنظام العالمي، الذي اعتمد في الماضي على آلية بسيطة، تعمل على تبخيس أسعار المواد الخام التي تصدرها الدول المستعمرة، وإعادة تصديرها لها في صورة منتجات مصنعة، بأضعاف الثمن، كان له أن يعيد تشكيل آلياته، بعد ثورات التحرر الوطني منتصف القرن الماضي، وظهور منطق الإنتاج "ما بعد الفوردي" لاحقاً. فعمليات الإنتاج التي تمت عولمتها عبر شبكة من مراكز التصنيع والتجميع حول العالم، وبعد نقل الشركات العابرة للقارات للكثير من مصانعها ومراكز خدماتها إلى دول الجنوب، ما زالت تعمل بالرغم من هذا، لصالح تحويل فوائض القيمة إلى دول الشمال. فسياسات السوق الحر، ومؤسساته التى تفرض سعراً عالمياً وموحداً للمنتجات والسلع، على الجميع، تعمل أيضاً على ترسيخ فوارق عميقة في "أسعار" القوى العاملة. على سبيل المثال، فإن مهندس الإنتاج من دول الجنوب، والذي يعمل في مصنع ألماني للسيارات أو مملوك لوكيله المحلي، عليه أن يشترى السيارة بسعرها العالمي، وأحياناً بأعلى من سعرها في ألمانيا، وأن يدفع ثمن وقودها بالسعر العالمي أيضاً، فيما يتقاضي راتباً هو خُمس راتب نظيره الألماني في أفضل الأحوال. وتعمل تلك المفارقة، التي تفتقر للحد الأدنى من المنطق، عبر منظومة شديدة التعقيد من العمليات المالية واتفاقات التجارة وبنية المنظمات الدولية واشتراطات الجهات المانحة وغيرها. إلا أنه، وفيما يعمل هذا النظام لصالح شبكة الدعم الإجتماعي في دول الشمال، ممثلة في الخدمات الصحية والتعليمية المجانية، وإعانات البطالة والعجز والإسكان الإجتماعي وإعانات السكن، فإن المنظومة ذاتها، في دول الجنوب، تعمل بالعكس فتشترط رفع دعم الدولة وإعفائها من مسؤولية تقديم الخدمات الأساسية.

هكذا، وفي ظل منظومة تعمل على تحرير حركة السلع ورؤوس الأموال عبر الحدود، وتعمل بالهمّة نفسها، على تقييد حركة البشر من الجنوب إلى الشمال إلى حدها الأقصى، فإن تفجُّر الأوضاع الإجتماعية في الدول الأفقر في صور صراعات إقليمية وانتفاضات وحروب أهلية وغيرها، يصب في المحصلة النهائية في صالح تبخيس التصنيف الائتماني لدول الجنوب وقيمة عملتها المحلية وكذلك أسعار قواها البشرية، إضافة إلى استنزاف مواردها في واردات السلاح من دول الشمال، في دورات مغلقة من عدم الاستقرار والإفقار لترسيخ منظومتها الأولية.

لا تخلو مصادفة توافق الإعلان عن رفع أسعار الوقود، مع ذكرى 30 يونيو، من الدلالات. فمنظومة الاقتصاد العالمي، وفِي ظل تناقضاتها والعميقة، والتي يتحمل تبعاتها شديدة المأساوية السواد الأعظم من سكان الجنوب، تبدو ممكنة فقط وقابلة للاستمرار وإعادة إنتاج نفسها في أحيان كثيرة عبر أنظمة حكم محلية شديدة القمعية، قادرة على إخضاع مواطنيها بالقوة وحكم الرعب، وإرغامهم على الخضوع لتلك المنظومة، واشتراطاتها. فإن كان التوقيت في حالتنا هذه مجرد صدفة، فإن تكثيف نظام 30 يونيو، الأكثر قمعا ويأساً من سابقيه، لعمليات الانخراط في المنظومة العالمية، ليس من باب الصدفة بالتأكيد. فخلال العامين المقبلين، سترفع الحكومة المصرية الدعم نهائياً عن الوقود، لتقترب أسعار معظم السلع من معدلاتها العالمية، فيما ستستمر القيمة الشرائية للأجور في التهاوي بفعل تحرير سعر الصرف، وانخفاض قيمة الجنيه إلى النصف، وربما أكثر في المستقبل القريب. وهو أمر واقع لا يمكن ترسيخه سوى بتشديد قبضة الأجهزة القمعية، والإمعان في خنق حرية التعبير والاحتجاج، ومحاصرة المجتمع المدني بالكامل.

هكذا، فإن نظام 30 يونيو هو هِبة مصر للنظام الرأسمالي العالمي، وهو جدير "بالاحتفاء" بمؤسساته إلى أن تُتمّ الدورة المعتادة اكتمالها.. ويعجز القمع وحده عن الحفاظ على الوضع القائم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها