الأربعاء 2017/07/26

آخر تحديث: 14:04 (بيروت)

النصر النهائي للرأسمالية

الأربعاء 2017/07/26
النصر النهائي للرأسمالية
إيلون ماسك جدّي في العمل على تأسيس اول مستعمرة في المريخ
increase حجم الخط decrease
في نسخة الرأسمالية لعالم ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والمعروفة بالعولمة وعصر السماوات المفتوحة، بشّر آلان غرينسبان وزير الخزانة الأميركية (1987- 2006)  والمسؤول عن الهندسية الاقتصادية لعواقب تفكك الاتحاد السوفياتي، بعالم جديد يسوده السلام والاستهلاك والإنتاج، حيث حرية الليبرالية الجديدة التي تسمح بنقل البضائع والثروات وتمنح البشر عالماً أكثر حرية، وأشخاصاً أكثر التصاقاً بفرديتهم وغربتهم.


في مذكراته المنشورة بالعربية تحت عنوان "عصر الاضطرابمغامرات في عالم جديد" يؤكد غرينسبان أن الحرية الاقتصادية التي وعدت بها عولمة التسعينات ستتبعها بكل تأكيد حرية سياسية، وأن إجبار الدول الديكتاتورية الصغيرة الباقية على الخريطة، على الدخول في السوق الجديدة والتوقيع على معاهدات التجارة الحرة، سيؤدي إلى خلخلة قبضة السلطة الحاكمة وظهور كيانات اقتصادية قادرة على فرض السياسات الليبرالية الاقتصادية داخلياً، وعلى خلق وظائف جديدة للجميع، وبالتالي ستصل ثمار العولمة في النهاية إلى الجميع.

غرينسبان في شبابه كان من تلامذة الكاتبة والروائية –وأحياناً تصف نفسها أيضاً بالفيلسوفة- آين راند، ويعتبرها ملهمته. في العام 1957 قدمت راند في روايتها "Atlas Shrugged" الحلم الذي سيسعى إليه غرينسبان ورفاقه من منظري رأسمالية ما بعد الحرب العالمية الثانية.

تدور الرواية حول عالم يتداعى على مشارف كارثة اقتصادية، لكن كل الدول تحكمها حكومات وأنظمة شمولية، حيث الحكم باسم الشعب، والأنا الفردية تختفي. لكن في وسط هذا، تتلاقي مجموعة من الرأسماليين بهدف القيام بثورة وتحطيم الحكومات وأساطير الدولة القومية وسلطتها، لينقذوا البشرية من الكساد والكوارث الاقتصادية. وعلى امتداد أكثر من 50 عاماً مثلت الروايةن دستور الليبرالي الصغير، بمدحها الغرور الفردي وحكمة السوق الحر وقدرته على تحقيق التوازن الكوني وضمان التقدم مع السعادة كسلعة يمكن بيعها وامتلاكها من قبل الجميع.

وضعت رأسمالية/عولمة التسعينات، تفكيك سلطات الدولة القومية، وخصوصاً الاقتصادية، نصب عينيها، لكنها لم تنتبه لأصدقاء الأمس وأعداء الدولة القومية الذين فاجأوها في 11 أيلول/سبتمبر بتدمير رمزها الأكبر، أي برجي التجارة العالمية، لتعلن الأصولية الإسلامية الرافضة أيضاً لديكتاتورية الدولة القومية، حربها مع العولمة والعالم الجديد الذي يتشكل. وفي معركتها الجانبية مع ما أصبح يعرف حديثاً بالارهاب، استخدمت كل الوسائل من قصف جبال تورا بورا، إلى الضغط على الديكتاتوريات الحاكمة لاشراك الإسلاميين في السلطة في ما سيعرف حديثاً بالصندوقراطية، حيث السماح لمن يفوز بأكبر عدد من الأصوات في الصندوق بقهر الآخرين واستلاب حريتهم العقائدية والشخصية، وهو ما سيعرف فقيهاً بعد ذلك بشرعية الصندوق.

في معاركها من أجل عالم يمكن بيع كل ما هو مادي وغير مادي فيه، تضاءلت موارد الكوكب بشكل غير مسبوق، وتسارعت التغييرات المناخية الناتجة عن تشجيع الجشع الاستهلاكي، واستُنزفت موارد الكوكب.  الليثيوم على سبيل المثال والذي كان عنصراً لا يلقي الاهتمام منذ عقدين أصبح الآن موضوعاً لصراع حكومات وكيانات اقتصادية وتحذيرات من تضاؤل مخزونه في العالم، وذلك بسبب استخدامه في تصنيع بطاريات أجهزة الكومبيوتر والهواتف النقالة والبطاريات التي سيتم استخدامها في السيارات الكهربائية.

إيلون ماسك والذي لا نعرف بعد إن كان المخلص أم المسيح الدجال، يؤكد في كل مناسبة أن هناك مشاكل لم يعد في إمكان الحكومات حلّها، ولا يمكن السوق المفتوحة. فالكوكب، في رأيه، يمكن أن يعمل بكفاءة بحوالى 10% من سكانه، ويضيف أنه لا يمكن توفير وظائف بديلة لكل هؤلاء البشر لأن الآلات وأجهزة الكومبيوتر ستحل مكانهم. على سبيل المثال، ما زالت المفاوضات تتأرجح بين شركة "تسلا" المتخصصة في انتاج السيارات الكهربائية ذاتية القيادة، وشركة "أوبر" لتوفير سيارات ذاتية القيادة كعربات تعمل مع "أوبر"، وبالتالي فإنك في المستقبل حينما تطلب سيارة "أوبر" لن تأتيك سيارة بسائق، ولن تحتاج للقيادة أصلاً. قائمة المهن المهددة بالاختفاء، تبدأ من سائقي التاكسي وصولاً إلى الأطباء، ناهيك طبعاً عن العمال في المصانع الذين تُصمم التكنولوجيا أصلاَ من أجل تقليل عددهم.

يستثمر ماسك أمواله في مسارين، المسار الأول من أجل تشجيع استخدام الطاقة النظيفة كمصدر أساسي للطاقة لانقاذ الكوكب وجعله صالحاً أكثر من الأعوام التى منحها الفيزيائي ستيفن هوكنغ كصلاحية للكوكب. والمسار الثاني هو الاستعداد للهجرة من خلال شركته اسبايس اكس المتخصصة في أبحاث ورحلات الفضاء، تمهيداً لحلمه بالهجرة من كوكب الأرض وتأسيس أول مستعمرة في المريخ. لكننا نظل هنا، نواجه عقبة أخيرة للحاق بهذا العالم، وهي ضرورة إغلاق قناة "الجزيرة"! إذهب إذن أنت وايلون ماسك، غيّروا العالم ومصادر الطاقة فيه، لأننا نحن هنا قاعدون.

مع الانتصار النهائي للرأسمالية، بعدما صدقنا وعد الليبرالية الجديدة بالحرية الاقتصادية التي ستتبعها الحرية السياسية، وجدنا أن حرية الليبرالية الجديدة لا تسمح لك بحق رفض الليبرالية الاقتصادية وقواعدها الجديدة. لهذا، كل الأنظمة العربية التي تشكلت بعد انحسار أمواج "الربيع العربي"، سارعت بلا تردد ورغم كل المخاطر، إلى التوقيع على سياسات صندوق النقد الدولي الجديدة، الساعية إلى تحقيق الانتصار الكامل والنهائي للرأسمالية الخرائبية. كل الدول، من مصر حتى المغرب، تسير في طريق تحرير سعر العملة ورفع الدعم عن المحروقات والسلع الغذائية. فمنذ التسعينات، تجلت حقيقة أن السماح بحرية التجارة ليس كافياً، فالدول القومية تستغل سلطاتها الاقتصادية من أجل التلاعب بسعر صرف العملة المحلية ودعم السلع الأساسية، ما يقضي على الهدف الذي تسعى إليه العولمة.

لكن في تسارع تلك الأنظمة وانبهارها بنموذج التنمية الخليجي، حيث أصبحت دبي صورة مدينة المستقبل العربي الوحيدة التى لا يرون غيرها، تدهس الأنظمة العربية كل الأساطير المؤسسة لوجود الدولة القومية من الأساس. الجيوش تتحول شركات استثمارية تتوسع في أنشطتها الاقتصادية لكى تضمن لنفسها مكاناً تحت ظل خرائب انتصار الرأسمالية، والحروب مستمرة بلا نصر أو هزيمة تقودها وتنتصر فيها شركات الحراسة الخاصة أو كتائب وجماعات مسلحة تنوب عن جيوش الدول المتصارعة، كحالة الفصائل المتقَاتلة في سوريا أو نموذج المستقبل العراقي المتمثل في "الحشد الشعبي".

المتاحف لم تعد مشاريع قومية لتشكيل الهوية المتخيلة للجمَاعة، بل لتنشيط السياحة، والمدارس لم يعد ضرورياً أن ترفع العلم، بل تفتخر المدارس الحديثة في بلد كمصر بأنها لا تُدرس طلابها اللغة العربية. هناك قلة بالطبع ما زالت تحلم بأمجاد الدولة القومية، حيث الأرض عرض، والجيش شرعية حكمه مستمدة من قدرته على تحقيق السيادة على الأرض، لا قدرته على تحقيق أرباح اقتصادية من مشاريعه الاحتكارية. لهؤلاء الغارقين في سراب العَلَم والنشيد، ألا تسمعون دويّ الطلقات الحادية والعشرين لقوميتنا الحبيبة؟ ألا ترون شمس الرأسمالية وهي تعمي الأبصار وتكشف خرائبنا؟ هل سنظل على استسلامنا لسقوطنا في الفقر أكثر فأكثر. جياع لا ننتفض إلا لعَلَم أو لجزيرة غير مأهولة أو لاستكمال خلاف فقهى أو صراع ميتافيزيقي عمره أكثر من ألف عام؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها